بسم الله الرحمن الرحيم"
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا "
سورة مريم:25ما جاء في تفسير الاية الكريمة.
لماذا قال الله تعالى " وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ...؟ ولم يقل وَهُزِّي إِلَيْكِ النَّخْلَةِ ...؟
وما الاعجاز في الاية العظيمة ؟
ومسااائل اخرى وفوائد.قال الله تعالى في سورة مريم :"
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا . وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ". مريم: 23-26
لماذا أمر الله مريم (عليها السلام) بهز جذع النخلة ولم يأمرها بهز النخلة أو تحريكها، فما العبرة والحكمة والاعجاز ؟
سنورد اولا بعض ما جاء عند كبار المفسرين ثم نقف على تحليلات وتوضيحات أخرى...
قال
البغوي في تفسيره:
"
وهزي إليك " يعني قيل
لمريم:
حركي بجذع النخلة تقول العرب:
هزه وهز به ،كما يقول:
حز رأسه وحز برأسه ، وأمدد الحبل وأمدد به تسّاقط عليك: القراءة المعروفة بفتح ا
لتاء والقاف وتشديد السين ، أي :
تتساقط ، فأدغمت إحدى التاءين في السين ، أي :
تسقط عليك النخلة رطبا، وخفف
حمزة السين وحذف التاء التي أدغمها غيره .
وقرأ حفص بضم التاء وكسر القاف خفيفا على وزن تفاعل ( تُسَاقِط). وتساقط بمعنى أسقط ، والتأنيث لأجل النخلة .
وقرأ يعقوب : " يّساقط " بالياء مشددة ردة إلى الجذع . قال
القرطبي في تفسيره:
قوله تعالى :"
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة "( أجاءها )
اضطرها ؛
وهو تعدية جاء بالهمز . يقال :
جاء به وأجاءه إلى موضع كذا ،
كما يقال :
ذهب به وأذهبه .
وقرأ شبيل ورويت عن عاصم ( فاجأها ) من المفاجأة . وفي مصحف أُبيّ ( فلما أجاءها المخاض ) .
وقال
زهير :
وجار سار معتمدا إلينا ..... أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ الجمهور "المًخاض " بفتح الميم . وابن كثير فيما روي عنه بكسرها( المِخاض)، وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها . مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا . وناقة ماخض أي دنا ولادها .
" إلى جذع النخلة "،كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به ، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق . والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن ؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة .
وقال
القرطبي في قوله تعالى :"
فانتبذت به مكانا قصياً"
أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد ؛ قال
ابن عباس :
إلى أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال ؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج . قال ابن عباس : ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر ؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل . وقيل غير ذلك على ما يأتي :
قوله تعالى :"
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة "(
أجاءها ) اضطرها ؛ وهو تعدية جاء بالهمز . يقال : جاء به وأجاءه إلى موضع كذا ، كما يقال : ذهب به وأذهبه . وقرأ شبيل ورويت عن عاصم ( فاجأها ) من المفاجأة . وفي مصحف أبي ( فلما أجاءها المخاض ) .
وقال زهير :
وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاءوقرأ الجمهور
المَخاض بفتح الميم . وابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها . مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا . وناقة ماخض أي دنا ولادها . إلى جذع النخلة كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به ، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق . والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن ؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة .
"
قالت يا ليتني مت قبل هذا" تمنت
مريم - عليها السلام - الموت من جهة الدين لوجهين : أحدهما :
أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك .
الثاني :
لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنا وذلك مهلك .
وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا ، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة يوسف - عليه السلام - والحمد لله .
قلت : وقد سمعت أن مريم - عليها السلام - سمعت نداء من يقول :" اخرج يا من يعبد من دون الله" فحزنت لذلك . و قالت "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا" النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه . وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا : احفظوا أنساءكم ؛ الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى . ومنه قول الكميت - رضي الله تعالى عنه - :
أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل وقال
الفراء :
النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها ؛ فقول مريم : ( نَسياً مَنسياً ) أي حيضة ملقاة .
وقرئ ( نَـْسياً ) بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر .
وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز ( نِسْـئاً ) بكسر النون .
وقرأ نوف البكالي ( نَـسَئا ) بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره .وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب .
وقرأ بكر بن حبيب ( نَـسّا ) بتشديد السين وفتح النون دون همز .
وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى - عليه السلام - حملت أيضا أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت : يا مريم أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها : وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك ؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم ؛ قال السدي فذلك قوله :"مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين "وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار ، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك . قال الكلبي : قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنا - فالآن يقتلها الملك ، فهرب بها ، فهم في الطريق بقتلها ، فأتاه جبريل - عليه السلام - وقال له :" إنه من روح القدس "؛ قال ابن عطية : وهذا كله ضعيف .
وهذه القصة تقتضي أنها حملت ، واستمرت حاملا على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر . قاله عكرمة ؛ ولذلك قيل : لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصة عيسى . وقيل : ولدته لتسعة . وقيل : لستة . وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر . والله أعلم .
قوله تعالى :"
فناداها مِـن تَحتها... ( فَناداها مَـن تَحتـَها ) " قرئ بفتح الميم وكسرها . قال
ابن عباس : المراد ب ( مِن )
جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ؛ وقاله علقمة والضحاك وقتادة ؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم . وقوله :"
ألا تحزني "تفسير النداء ، ( وأن ) مفسرة بمعنى أي ، المعنى : فلا تحزني بولادتك . قد جعل ربك تحتك سريا يعني
عيسى . و
السري من الرجال العظيم الخصال السيد . قال
الحسن : كان والله سريا من الرجال .
ويقال :
سري فلان على فلان أي تكرم . وفلان سري من قوم سراة .
وقال الجمهور :
أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة .
قال
ابن عباس :
كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم .
والنهر يسمى سريا ؛ لأن الماء يسري فيه ؛ قال الشاعر :
سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهراوقال لبيد :
فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها وقيل :
ناداها عيسى ، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها ؛ والأول أظهر . وقرأ
ابن عباس (
فناداها ملك من تحتها ) قالوا : وكان
جبريل - عليه السلام - في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها .
قوله تعالى "
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عيناً " فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى :
وهزي أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع .
والباء في قوله : "
بجذع " زائدة مؤكدة كما يقال : خذ بالزمام ، وأعط بيدك قال الله تعالى : "
فليمدد بسبب إلى السماء" أي فليمدد سببا .
وقيل :
المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة .
و
تَسّاقط أي تتساقط فأدغم التاء في السين . وقرأ حمزة ( تَساقط ) مخففا فحذف التي أدغمها غيره . وقرأ عاصم في رواية حفص
تُساقط بضم التاء مخففا وكسر القاف . وقرئ (
تتساقط ) بإظهار التاءين و (
يُساقط )
بالياء وإدغام التاء ( وتسقط ) و ( يسقط ) و ( تسقط ) و ( يسقط ) بالتاء للنخلة وبالياء للجذع ؛ فهذه تسع قراءات ذكرها
الزمخشري - رحمة الله تعالى عليه - .
رُطباً نصب بالهز ؛ أي إذا هززت الجذع هززت بهزه رطبا جنيا وعلى الجملة ف (
رطباً ) يختلف نصبه بحسب معاني القراءات ؛ فمرة يستند الفعل إلى الجذع ، ومرة إلى الهز ، ومرة إلى النخلة . وجنيا معناه قد طابت وصلحت للاجتناء ، وهي من جنيت الثمرة . ويروى عن ابن مسعود -
ولا يصح - أنه قرأ (
تساقط عليك رطبا جنيا برنيا ) .
وقال مجاهد :
رطبا جنيا قال : كانت عجوة .
وقال
عباس بن الفضل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله : رطبا جنيا فقال :
لم يذو . قال : وتفسيره :
لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه ؛ وهذا هو الصحيح .
قال
الفراء :
الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح .
وقال غير الفراء :
الجني المقطوع من نخلة واحدة ، والمأخوذ من مكان نشأته ؛ وأنشدوا :
وطيب ثمار في رياض أريضة وأغصان أشجار جناها على قربيريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ .
قال
ابن عباس ":
كان جذعا نخرا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع ، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف ، ثم اخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ، ثم رطبا ؛ كل ذلك في طرفة عين ، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء".
الثانية :
استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما ؛ فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه ؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية ، وكانت الآية تكون بألا تهز .
الثالثة :
الأمر بتكليف الكسب في الرزق سنة الله تعالى في عباده ، وأن ذلك لا يقدح في التوكل ، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة ؛ وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه . وقد كانت قبل ذلك يأتيها رزقها من غير تكسب كما قال :"
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً " الآية . فلما ولدت أمرت بهز الجذع .
قال علماؤنا :
لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب ، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه ، واشتغل سرها بحديثه وأمره ، وكلها إلى كسبها ، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده .
وحكى
الطبري عن ابن زيد أن عيسى - عليه السلام - قال لها :
لا تحزني ؛ فقالت له :
وكيف لا أحزن وأنت معي ؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة ! أي شيء عذري عند الناس ؟ ! يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فقال لها عيسى :
أنا أكفيك الكلام .
الرابعة : قال
الربيع بن خيثم :"
ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية ، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ؛ ولذلك قالوا : التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك" .
وقيل :
إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ، ولا للمريض خير من العسل ؛ ذكره الزمخشري .
قال
ابن وهب قال مالك قال الله تعالى :"
رطبا جنيا " الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد . والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب ؛ فهذا مكروه ؛ يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه ؛ ولا حكما بطيبه .وقد مضى هذا القول في الأنعام . والحمد لله . عن طلحة بن سليمان جنيا بكسر الجيم للإتباع ؛ أي جعلنا لك في السري والرطب فائدتين : إحداهما الأكل والشرب ، الثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين .
وهو معنى قوله تعالى :"
فكلي واشربي وقري عيناً " أي
فكلي من الجني ، واشربي من السري ، وقري عينا برؤية الولد النبي .
وقرئ
بفتح القاف وهي قراءة الجمهور . وحكى الطبري قراءة ( وقِرّي ) بكسر القاف وهي لغة نجد .
يقال : قِرّ عينا يقُر ويقِر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت . وهو
مأخوذ من القر والقرة وهما البرد .
ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة . وضعفت فرقة هذا وقالت : الدمع كله حار ، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن ؛ وفلان قرة عيني ؛ أي نفسي تسكن بقربه .
وقال
الشيباني : (
وقري عينا )
معناه نامي ؛ حضها على الأكل والشرب والنوم .
قال
أبو عمرو :
أقر الله عينه أي أنام عينه ، وأذهب سهره . وعينا نصب على التمييز ؛ كقولك : طب نفسا . والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين ؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير . ومثله طبت نفسا ، وتفقأت شحما ، وتصببت عرقا ، ومثله كثير .
قال
ابن عاشور في "
التحرير والتنوير":
فائدة قوله "
وهزي إليك بجذع النخلة "
أن يكون إثمار الجذع اليابس رطبا ببركة تحريكها إياه ، وتلك كرامة أخرى لها . ولتشاهد بعينها كيف يثمر الجذع اليابس رطبا . وفي ذلك كرامة لها بقوة يقينها بمرتبتها .
و
الباء في
بجذع النخلة لتوكيد لصوق الفعل بمفعوله مثل "وامسحوا برءوسكم" وقوله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" . وضمن هزي معنى قربي أو أدني ، فعدي بـ ( إلى ) ، أي حركي جذع النخلة وقربيه يدن إليك ويلن بعد اليبس ويسقط عليك رطبا : والمعنى : أدني إلى نفسك جذع النخلة . فكان فاعل الفعل ومتعلقه متحدا ، وكلاهما ضمير معاد واحد . ولا ضير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو "واضمم إليك جناحك" . فالضام والمضموم إليه واحد . وإنما منع النحاة أن يكون الفاعل والمفعول ضميري معاد واحد إلا في أفعال القلوب ، وفي فعلي : عدم وفقد ، لعدم سماع ذلك ، لا لفساد المعنى ، فلا يقاس على ذلك منع غيره .
والرطب : تمر لم يتم جفافه .
والجني : فعيل بمعنى مفعول ، أي مجتنى ، وهو كناية عن حدثان سقوطه ، أي عن طراوته ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهدا بنخلته كان أطيب طعما .
و ( تساقط ) قرأه الجمهور بفتح التاء وتشديد السين أصله تتساقط بتاءين أدغمت التاء الثانية في السين ليتأتى التخفيف بالإدغام .
وقرأه حمزة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين للتخفيف . و رطبا على هاته القراءات تمييز لنسبة التساقط إلى النخلة .
وقرأه حفص بضم التاء وكسر السين على أنه مضارع ساقطت النخلة تمرها ، مبالغة في أسقطت ، و رطبا مفعول به .
وقرأه يعقوب بياء تحتية مفتوحة وفتح القاف وتشديد السين فيكون الضمير المستتر عائدا إلى جذع النخلة .
وجملة فكلي وما بعدها فذلكة للجمل التي قبلها من قوله قد جعل ربك تحتك سريا أي فأنت في بحبوحة عيش .
وقرة العين : كناية عن السرور بطريق المضادة ، لقولهم : سخنت عينه إذا كثر بكاؤه . فالكناية بضد ذلك عن السرور كناية بأربع مراتب ، وتقدم في قوله تعالى "وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك ". وقرة العين تشمل هناء العيش وتشمل الأنس بالطفل المولود . وفي كونه قرة عين كناية عن ضمان سلامته ونباهة شأنه .
وفتح القاف في وقري عينا لأنه مضارع قررت عينه من باب رضي ، أدغم فنقلت حركة عين الكلمة إلى فائها في المضارع لأن الفاء ساكنة .
"
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " قال بعض أهل العلم
انّ مرد ذلك سنة الله في الأخذ بالأسباب في طلب الرزق ، ولكن مرَ في سورة
آل عمران:37 آيات واضحة ليست تحتاج تاى تفسير نخبرنا بأن مريم - عليها السلام - كان رزقها يأتيها وهي جالسة في محرابها بدون عناء" ، قال تعالى :"
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ "
قال
مجاهد وعكرمة والسدي:
يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
والسؤال المهم ها هنا... لماذا جاء الامر لمريم - عليها السلام - بهز النخلة ، وهي يومئذ نفساء ضعيفة الجسد قليلة ، حزينة وبائسة بائسة ممقوتة، حتى ان الله فال لها :"
ألاَّ تَحزَنِي ... فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً " ( مريم:27) ، ووصل بها الأمر من الجهد الجسدي والنفسي واللأواء لتقول : "
يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً " ( مريم:23).
فما سبق بياته وذكره يؤكد لنا أن الله منح مريم - عليها السلام - الرزق وتفضل عليها قديما وهي قوية صحيحة معافاة !!!...فلم يأمرها - هنا -في الضعف والمرض والحاجة بأخذ الاسباب - كما قال اهل التفسير - ؟.؟؟
لا... لا بد أن الأمر فيه أشياء أخرى...لنتابع البحث والنقاش بالادلة: قيل :
1
.
أن جذع النخلة كان جذعا معروفاً ومعيناً بدليل قوله تعالى :"
فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ" ف
لفظة جذع نكرة مضافة إلى معرف بأل معروف.
قال
الطبري في تفسيره:"
واختلفوا في أي المكان الذي انتبذت مريم بـعيسى لوضعه ، وأجاءها إليه المخاض ، فقال بعضهم : كان ذلك في أدنى أرض مصر ، وآخر أرض الشأم ، وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم".
وقال الطبري:
"
يوسف النجار... وذلك لما رأى من رقة جسمها ، واصفرار لونها ، وكلف وجهها ، ونتو بطنها ، وضعف قوتها ، ودأب نظرها ، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك; فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك ، فإنهم إن ظفروا بك عيروك ، وقتلوا ولدك ، فأفضت ذلك إلى أختها ، وأختها حينئذ حبلى ، وقد بشرت بيحيى ، فلما التقيا وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجدا معترفا لعيسى ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ليس بينها حين ركبت وبين الإكاف شيء ، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها ، أدرك مريم النفاس ، ألجأها إلى آري حمار ، يعنى مذود الحمار ، وأصل نخلة ، وذلك في زمان أحسبه بردا أو حرا "الشك من أبي جعفر " ، فاشتد على مريم المخاض; فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة ، قاموا صفوفا محدقين بها .
وقد روي عن
وهب بن منبه قول آخر غير هذا ، وذلك ما حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال :
لما حضر ولادها ، يعني مريم ، ووجدت ما تجد المرأة من الطلق ، خرجت من المدينة مغربة من إيلياء ، حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم ، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة تحتها ربيع من الماء ، فوضعته عندها .
وقال آخرون :
بل خرجت لما حضر وضعها ما في بطنها إلى جانب المحراب الشرقي منه ، فأتت أقصاه فألجأها المخاض إلى جذع النخلة ، وذلك قول السدي .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ما هي إلا أن حملت فوضعت .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وأخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول : ليس إلا أن حملت فولدت
2
.
أن الجذع كان ميتا، بلا رأس يابسا منخوراً .
قال قطرب:" قال
قطرب :
كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع".
قال شهاب الدين الالوسي :...في الجذع الذي اوت اليه مريم عليها السلام " روي عن
ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي أو لذلك (
ولتستر به كما قيل ، والجذع ما بين العرق ومتشعب الأغصان من الشجرة ، وقد يقال للغصن أيضا : جذع ، والنخلة معروفة . والتعريف إما للجنس فالمراد واحدة من النخل لا على التعيين أو للعهد فالمراد نخلة معينة، ويكفي لتعينها تعينها في نفسها، وإن لم يعلمها المخاطب بالقرآن عليه الصلاة والسلام كما إذا قلت: أكل السلطان ما أتى به الطباخ أي طباخه فإنه المعهود ، وقد يقال : إنها معينة له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يكون الله تعالى أراها له عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج ، وزعم بعضهم أنها موجودة إلى اليوم ، والظاهر أنها كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها وهو الذي تدل عليه الآثار ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها عليها السلام لما اشتد عليها الطلق نظرت إلى أكمة فصعدت مسرعة فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس عليها سعف" ص:82
3
.
أن هز الجذع كان في أيام الشتاء حيث لا يثمر النخيل.
قال شهاب الدين الالوسي :"
وقيل :...وكان الوقت شتاء ، ولعل الله تعالى أرشدها إليها ليريها فيما هو أشبه الأشجار بالإنسان من آياته ما يسكن روعتها كأثمارها بدون رأس، وفي وقت الشتاء الذي لم يعهد ذلك فيه، ومن غير لقاح كما هو المعتاد... .ص:82
قال
ناصرالدين البيضاوي في تفسيره:" (
إلى جذع النخلة )
لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة ، وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء ، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب"
4
.
أن الغاية من أن يكون تحت مريم - عليها السلام - نهراً جارياً ، ورطباً جنياً، كما قال تعالى :"...قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً .وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً " مريم:24-26
الغاية أن تكون منعمة ، مطمئنة ، قارة العين ، هادئة النفس ، متوكلة ولاجئة إلى أن الله عالمة يقينا أنه لا ولن يتركها .
5
.
أن أمر حملها - بلا أب - معجزة.. و
جعل النخلة اليابسة مثمرة خضراء في الشتاء ، بلا تلقيح ، مثمرة مستمرة الاسقاط...
معجزة ، و
اجراء النهر او الينبوع العذب البارد عند قدميها...
معجزة أيضاً ، و
انطاق الطف في المهد لبيان براءتها وطهارتها ...
معجزة.
الخاتمة :
جمعنا لكم من كل بستان علم زهرة ... لنقف على الحقائق والمعجزات بالادلة والمنطق والحجة والبرهان... فإن أصبنا فمن الله وبتوفيقه...وإن أخطأنا فمن أنفسنا ومن الشيطان...ونسأل الله علما نافعا وقلوبا خاشعة وتقوى وهدى ونوراً وبركة...وإخلاصاً لوجهه الكريم في الأقوال والاعمال ، في السر والعلن...