الداعية للخير داعية نشيط
عدد المساهمات : 543 تاريخ التسجيل : 30/12/2009 العمر : 34 الموقع : yahoo.com
| موضوع: الناسخ والمنسوخ للآيات الواردة في سورة ( البقرة ) ج 2 السبت يناير 24, 2015 2:03 pm | |
| الناسخ والمنسوخ للآيات الواردة في سورة ( البقرة ) ج 2
14- الآية الرابعة عشرة قوله تعالى: (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله...) الآية [196 مدنية / البقرة / 2] نسخت بالاستثناء بقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك...) الآية [196 مدنية / البقرة / 2].
15 - الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين...) الآية [215 مدنية / البقرة / 2] منسوخة وناسخها قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين...) الآية [60 مدنية / التوبة / 9].
16 - الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الآية [217 / البقرة] منسوخة وناسخها قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...) الآية [5 مدنية / التوبة / 9].
فقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيه كَبير} أكثرُ العلماءِ أنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ؛ لأنَّ اللهَ عظَّمَ القتالَ في الشَّهر الحرام. ثم نسخَ ذلك في براءة بقوله: {فَاقْتُلوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهم} [التوبة: 5] وبقوله: {قَاتِلوا الذِينَ لاَ يؤمِنُونَ باللهِ ولاَ باليَومِ الآخِر} [التوبة: 29]. فأباح قتلَهم وقتالهم في كُلِّ موضِعٍ، وفي كُلِّ وقتٍ من شهرٍ حرامٍ وغيره، وهو (قولُ) ابنِ عبَّاس، وقتادة، والضَّحَّاك، والأوزاعي، وابنِ المسَيِّب. وقال عطاءٌ ومجاهدٌ: الآيةُ محكمةٌ، ولا يجوزُ القتالُ في الأشهرِ الحُرمِ. والجماعةُ على خلاف ذلك.
والأَشهُرُ الحرُمُ التي كان الله قد حرَّم فيها القتالَ ثُمَّ نسخَه لم يُخْتَلَف فيه أعيانها، وهي: المحرَّمُ، ورجبٌ، وذو القعدة وذو الحجّة. واختُلِفَ في ترتيبها: فقال (قوم مِن) أهلِ المدينة: هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. يجعلونها من سنتين. وقال بعض المدنيين: أوّلُها رجب، وهي من سنتين؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - قدم المدينة (في ربيع الآخر وقد قيل) في ربيع الأول (وأول شهرٍ كان بعد قدومه من الحُرُم) رجب.
وقال الكوفيون: هي من سنة واحدة، وأولها المحرّم، وهي المذكورة في قوله تعالى: {مِنْهَا أربَعَةٌ حُرُم}. [التوبة: 36]. وأمّا الأشهرُ الحرُمُ المذكورة في أول سورة براءة في قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُر الحُرُمُ} [التوبة: 5] (فليست الحُرُمَ) التي كان قد حُرِّمَ فيها القتالُ المذكور في (سورة) البقرة، ولا هي المذكورةُ في قوله تعالى: {مِنْهَا أربَعَةٌ حُرُم} [التوبة: 36].
إنما هي أربعةُ أشهرٍ بعد يوم النَّحْرِ من ذلك العام، وهو عهدٌ كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، ويقال لها: أَشهرُ السِّياحة، أمرَ الله المؤمنين أن يَقتلوا المشركين حيثُ وجدوهم بعد انقضاءِ أربعةِ أشهرٍ من يوم النّحر مِن ذلك العام، وهي آخرُ العهدِ الذي انعقَد بين النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش. وأشهرُ الحجِّ: شوّال وذو القعدة وعَشْرٌ مِن ذي الحجَّة، (هذا قولُ أبي حنيفة) - رضي الله عنه -. وقال الشافعي: تسعٌ من ذي الحجة. وعن مالك: وذو الحجّة كُلُّه.
17 - الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ )
قفوله تعالى: {يَسْألونَكَ عَن الخَمْرِ والمَيْسِر) الآية [219 مدنية / البقرة / 2] منسوخة نسخها آية منها قوله تعالى: (وإثمهما أكبر من نفعهما) [219 / البقرة] فلما نزلت هذه الآية امتنع قوم عن شربها وبقي قوم، ثم أنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) [43 / النساء / 4] وكانوا يشربون بعد العشاء الآخرة ثم يرقدون ثم يقومون من غد وقد صحوا ثم يشربونها بعد الفجر إن شاءوا فإذا جاء وقت الظهر لا يشربونها البتة ثم أنزل الله تعالى: (فاجتنبوه) [90 مدنية / المائدة / 5] فاتركوه واختلف العلماء على التحريم ههنا.أو قوله تعالى: (فهل أنتم منتهون) [91 مدنية / المائدة / 5] لأن المعنى انتهوا - كما قال في سورة الفرقان (أتصبرون) [20 مكية / الفرقان / 25] الشعراء (...قوم فرعون ألا يتقون) [11 مكية / الشعراء / 26] المعنى اتقوا.
وأكثرُ العلماءِ على أنها ناسخةٌ لما كان مباحاً من شُربِ الخمر؛ لأنه تعالى أخبرنا أن في الخمر إثماً، وأخبرنا أن الإِثم محرمٌ بقوله تعالى: {قُلْ إنّما حَرّم رَبّي الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإِثمَ والبَغيَ بغيرِ الحقّ} [الأعراف: 33] فنصَّ على أن الإِثم محرمٌ، وأخبر أن في شربِ الخمر إثماً، فهي محرّمةٌ بالنصّ الظّاهر الذي لا إشكالَ فيه. وما حَرُمْ: كثيرُه وقليلُه حرام، كلحم الخنزير والميتة والدّم. وسورة البقرة مدنيةٌ، فلا يعترضُ على ما فيها (بما) نزل في الأنعام المكيّة (في قوله): {قُلْ لاَ أجدُ فِيمَا أُوحِيَ إليَّ محرماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه إلاَّ أن يَكُونَ} [الآنعام: 145] الآية -؛ لأن هذا تحريمٌ نزل بمكّة (والخمر نزل تحريمُها بالمدينة). وزادنا (الله تأكيداً في تحريم الخمرِ بقوله: {فهل أنتُم منتهون!!!} فهذا تهديدٌ ووعيدٌ يَدلاَّن على تأكيد التحريم للخمر. وزاد ذلك بياناً قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حُرِّمَت الخمرُ بعينها والسَّكر من غيرها". وأكَّد اللهُ ذلك وحقَّقَه بقوله تعالى: {فاجْتَنِبُوه لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 90]. و "لعلّ" من الله واجبةٌ، فضمانُ الفلاح في اجتنابها، فنظيرُه الخسرانُ مع مواقعتِها. وكما أنه تعالى حرَّمَ أكلَ لحم الخنزير، وقليلُه ككثيرهِ حرام بإجماع - كذلك يجبُ أن يكونَ الخمرُ والمسكرُ من (غيرها في التحريم قليلُها ككثيرِها في التحريم)، وزادَ ذلك بياناً قولُه - عليه السلام -: "ما أسكرَ كثيرُه فقليلُه حرام". قال ابنُ جُبَيْر: لما نزلت: {قُلْ فِيهِمَا إثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ للنّاس} [البقرة: 219] كَرِهَ الخمرَ قومٌ للإِثم، وشربَها قومٌ للمنافع، حتى نزل: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنتم سُكارى} [النساء: 43] فتركوها عندَ الصَّلاة حتى نزلَت: {فَاجْتَنِبُوه لعلّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 90] فحرِّمَت. فهذا يدلّ على أن آيةَ البقرةِ منسوخةٌ بآيةِ المائدة، والمائدةُ نزلت بعد البقرة بلا شك. وقوله تعالى: {ومنافعُ للناس}: منسوخٌ إباحةُ منافعِها بِنَسْخِ الخمر. والمنافعُ: هي ما كانوا ينحرون على الميسر من الجزور للضُّعفاء ولأَنفُسِهم، وذلك قِمار، حرَّمه الله لأنه من أكل المال بالباطل المحرَّم بنصّ القرآن. وقال ابنُ حبيب: المنافعُ التي في الخمر: هي أنّ الرّجلَ كان إذا أصابتْهُ مصيبةٌ تُكْرِبُه وتُغِمُّه، سُقِيَ الخمرَ فذهب عنه ذلك الغمّ. وقيل: المنافعُ في الخمر: ما يصيبون من لذّتها وسرورها عندَ شُربها.
18 - الآية الثامنة عشرة: قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) [219 مدنية / البقرة / 2] يعني الفضل من أموالكم الآية منسوخة وناسخها قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم...) الآية [103 مدنية / التوبة / 9].
قوله تعالى: {ويَسْألُونَكَ ماذا يُنفِقُون، قل العَفوَ} [البقرة: 219]. قال ابنُ عباس: [هي منسوخةٌ بفرض الزكاة].
وقيل: هي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ والمراد بالعفو: الزّكاةُ بعينِها.
وقيل: هي محكمةٌ مخصوصةٌ في التطوّع. والعفو - عند ابن عباس -: القليلُ الذي لا يتبينُ خروجُه من المال.
وقال طاووس: العفو: اليسيرُ من كُلّ شيء. وقال الحسنُ وعطاء: العفو: ما لا يكون إسرافاً ولا إقتاراً. وقال مجاهد: العفو: الصدقةُ عن ظهرِ غنى. وقال الربيعُ: العفو: ما طاب من المال. وقال قتادةُ: العفو أفضلُ المال وأطيبُه.
19 - الآية التاسعة عشرة: قوله تعالى: (وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [231 / البقرة] وليس في هذه شيء منسوخ إلا بعض حكم المشركات وجميعها محكم وذلك أن المشركات يعم الكتابيات والوثنيات ثم استثنى من جميع المشركات الكتابيات فقط وناسخها قوله تعالى: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم...) [5 مدنية / المائدة / 5] يعني بذلك اليهوديات والنصرانيات ثم مع الإباحة عفتهن فإن كن عواهر لم يجز.
فقوله تعالى: {ولاَ تَنكِحُوا المُشْرِكاتِ حتّى يُؤْمِنَّ} الآية: الظاهرُ في هذه الآيةِ أنها محكمةٌ مخصَّصةٌ مبيَّنةٌ بآيةِ المائدةِ في جوازِ نكاح الكتابيّات. وقد تقدَّم ذكرُ هذا - وقاله قتادةُ وابنُ جبير -. وعن ابن عباس: أنَّها في المشركاتِ مِن الكتابيّات وغيرهنّ اللواتي في دار الحرب، لا يَحِلُ نِكاح كتابيةٍ مُقيمةٍ في دارِ الحرب لأَنّها ليست من أهل ذمّة المسلمين، وهو قولُ أكثرِ العلماء. فالآيةُ محكمةٌ - على هذا القول - غيرُ عامّة وغيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصةٍ. وآيةُ المائدةِ في الكتابيّات من أهل الذمَّة ذوات العهد المقيماتِ مع المسلمين. (فالآيةُ) مخصوصةٌ في غيرِ الكتابيّات اللواتي بدار الإِسلام، فهي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ وغيرُ مخصَّصَةٍ]. وقد رُوِيَ عَن مالك أَنه قال: (هي) في غيرِ أَهلِ الكتاب، قال مالكٌ: قال اللهُ - جلَّ ذكرُه -: {ولاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكوافر} [الممتحنة: 10]، فهي عندَه محكمةٌ لم يُنْسَخ منها شيءٌ، إلا أنَّها غيرُ عامة، أُريدَ بها الخصوصُ في كل مشركةٍ من غيرِ أهلِ الكتاب، وبيَّن تخصيصَها آيةُ المائدة في تحليل نكاح الكتابيّات. وروُيَ عن ابن عمر أنه قال: هذه الآيةُ محكمةٌ، لا يجوزُ نكاحُ مُشركَةٍ كتابيةٍ ولا غيرِها. وقيل عنه: إنه إنّما كَرِه ذلك ولم يُحَرِّمْه. ولا يَصِحُّ عنه تحريمُ (نكاح) الكتابياتِ ذواتِ الذِّمَّة؛ لأنَّ نصَّ القرآنِ يدُلُّ على تحليل الكتابية ذميَّةً كانت أو غيرَ ذِمِّيَّةٍ. وعن مالك: أَنه كَرِهَ نكاحَ الكتابيّةِ التي في دار الحرب، ولم يُحرِّمه. وعلى تحريمه جماعةٌ من العلماء، جعلوا آيةَ المائدة في الكتابيّات ذواتِ الذمّة خاصةً. وهي عامّة في كُلِّ كتابيةٍ - عندَ مالكٍ وغيرِه، وعليه أكثرُ الصَّحابةِ والعلماء؛ لقوله: {والمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجورَهُنّ} [المائدة: 5] فعمَّ. فآيةُ المائدة مُحْكَمَةٌ غيرُ منسوخَةٍ، لكنّها مخصِّصةٌ ومبيِّنةٌ لآيةِ البقرة. وقد رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ أنه قال: آيةُ البقرة منسوخةٌ بآية المائدة. وهو أيضاً مرويٌ عن مالك، وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمرو (الأوزاعي). قال أبو محمد: وهذا إنما يجوزُ على أن تكونَ آيةُ البقرة في الكتابيات خاصة ثم نسخَتْها آيةُ المائدة، ويكونَ تحريمُ نكاح المشركات من غير أهل الكتاب بالسنّة. وحَمْلُ آية البقرة على العموم في كل المشركات ثم خصَّصَتْها وبَيَّنَتْها آيةُ المائدة أولى وأحسن؛ ليكونَ تحريمُ نكاح المشركات من غير أهل الكتاب بِنَصِّ القرآن. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: استثنى اللهُ منها نساءَ أهل الكتاب فأَحَلَّهُنّ بآية المائدة، وهذا معنى مفهومٌ مِن قوله، وإن كان بغير لفظ الاستثناء، فهو تخصيصٌ وبيان، كما أن الاستثناءَ بيانٌ أيضاً. وقد قال الحسنُ وعِكرِمَةُ في آية البقرة: نسَخَ اللهُ منها نساءَ أهل الكتاب فأَحلَّ نكاحَهُنَّ. وقد ذكرنا هذه الآية فيما تقدّم
20 - الآية العشرون: قوله تعالى: (وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوۤاْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [228 مدنية / البقرة / 2] هذه الآية جميعها محكم إلا كلاما في وسطها وهو قوله تعالي: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) الآية [228 مدنية / البقرة / 2] وناسخها قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان...) الآية [229 مدنية / البقرة / 2].
فقوله تعالى: {والمطلَّقَاتُ يتربَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثَةَ قروء}. قال قتادة: نُسِخَ منها التي لم يُدخل بها، لا عدَّة عليها، بقوله - جلّ وعزّ -: {فَمَا لَكُم عَلَيهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها} [الأحزاب: 49]. ونُسِخَ منها أيضاً التي يَئِست من المحيض، والتي لم تحض، والحامل، بقوله تعالى: {واللائِي يَئِسْنَ مِن المَحِيضِ مِن نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] إلى قوله: {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. والأَحْسَنُ الأَوْلى: أن تكون آيةُ الأحزاب والطّلاق مُخَصِّصَتَيْنِ لآية البقرة مُبَيِّنَتَيْنِ لها، فلا يكونُ في الآية نسخٌ. وتكون آيةُ البقرة مخصوصةً في المدخول بهنَّ من المطلَّقات ذواتِ الحيض - في وقت الطَّلاق - بيَّنَ (ذلك) آيةُ الأحزاب وآيةُ الطَّلاق. وقوله: ثَلاثةَ قُروء، يَدُلُّ على أن المراد ذواتُ الحيض - في وقت الطلاق - وقد تقدّم ذكْر هذا وبيانُه].
21 - الآية الحادية والعشرون: قوله تعالى في آية الخلع: (ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ) [229 مدنية / البقرة / 2] ثم نسخها بالاستثناء وهو قوله تعالى: (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) [229 مدنية / البقرة / 2].
فقوله تعالى: {الطَّلاَق مَرَّتان} الآية: هذا ناسخ لقوله: {وَبُعولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ} [البقرة: 228] يعني: في العِدَّة، أو هي حامل.
قال ابن أَبي أُويس: كان الرَّجُلُ في أوّل الإِسلام يطلِّق زوجتَه ثلاثاً، وهي حُبلى، وهو أحقُّ برَجْعَتِها ما دامت في العدّة، فنسخ الله ذلك بقوله: {الطَّلاقُ مرَّتَان فإمساكٌ بِمَعروفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإِحْسَان}.
وقال جماعةٌ من أهل المعاني: هذه الآيةُ ناسخةٌ لما كانوا عليه في الجاهلية (وفي) أَوَّل الإِسلام، كان (الرَّجُلُ يُطَلِّقُ) امرأته ما شاء مِن الطلاق، واحدةً بعد واحدة، فإذا كادت تحلّ مِن العدّة راجعها ما شاء، فنسخ ذلك من فعلهم بهذه الآية. والمعنى: آخرُ عدد الطلاق الذي يملك معه الرَّجعة تطليقتان. وقد كان يجب ألاّ تذكرَ هذه الآيةُ في الناسخ والمنسوخ - على هذا القول -؛ لأنها لم تنسخ قرآناً. ويلزم ذكرُها - على القول الأول -.
وقد قيل: إنها منسوخةٌ بقوله: {فَطلِّقوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} [الطلاق: 1].
قال أبو محمد: وهذا قول بعيدٌ، بل الآيتان محكمتان في معنيين مختلفين، لا ينسخ أَحدُهما الآخرَ آيةُ البقرة ذكر الله فيها (بيانَ) عدد الطَّلاق، وآيةُ الطَّلاقِ ذكرَ الله فيها بيانَ وقتِ بالطَّلاق. فهما حُكْمان مختلفان معمولٌ بهما، لا ينسخ أَحدُهما الآخر لتبايُنِ معنييهما.
قوله تعالى: {ولاَ يَحِلُّ لكُمْ أن تأخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيئاً إلاَّ أن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيما حُدودَ الله} [البقرة: 229] الآية: أدخل أبو عبيد هذه الآية في الناسخ والمنسوخ. وليست منه إنما هو استثناءٌ بحرفِ الاستثناء. وقد قيل: إنه منسوخٌ بقوله: {فإن طِبْنَ لَكُم عن شيءٍ منهُ نَفْساً فَكُلُوه} [النساء: 4]. والأوْلى والأَحْسن: أن تكونَ الآيتان محكمتيْنِ في حُكميْن مختلِفَيْن، لا ينسخُ أَحدُهما الآخرَ: آية البقرة في (منع) ما يأخذ الزَّوج من زوجتِه - على الإِكراه والمضارَّة بها -. وآية النساء في جواز ما يأخذ منها - على التطوُّع وطيب النفس من غير مضارَّة منه لها -.فهما حكمان مختلفان
22 - الآية الثانية والعشرون: قوله تعالى: (وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الآية [233 / البقرة] نسخت بالاستثناء بقوله: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) [233 / البقرة / 2] فصارت هذه الإرادة بالاتفاق ناسخة لحولين كاملين.
فقوله تعالى: {والوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَوْلَينِ كامِلَيْن}: فأمر الله - جلّ ذكرُه - بالحولين. ثم قال: {فَإِنْ أرَادا فِصالاً عَن تَراضٍ منهُمَا وتَشَاوُرٍ، فَلاَ جُناحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233]. فأباح (مع التَّشاور والرضا أن يفطما المولودَ قبل الحولين. فنسخ (الله) الأول.فذهب قوم إلى هذا.
(قال أبو محمد): ولا يجوز أن يكون فيه نسخٌ؛ لأنه تعالى قال أولاً: {لمن أراد أن يُتِمَّ الرَّضاعة}، فهو تخيير وليس بإلزام فلا نسخَ فيه. قوله تعالى: {وعَلَى الوَارثِ مِثْلُ ذَلِك} [البقرة: 233]: روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: هذا منسوخٌ ولم يذكر ما نسخَه، ولا كيف كان الحكمُ المنسوخُ. وتأويل ذلك فيما نرى - والله أَعلم -: أنه كان الحكم في الآية: أن على وارث المولود نفقَته إذا لم يكن له مال، ولا أب. وهو مذهب جماعة من العلماء، مِمَّن لم يرَ في الآية نسخاً، فنُسِخَ ذلك بالإِجماع على أن من ماتَ وترك حَمْلاً، ولا مال للميت، أنه لا نفقة للحامل على وارث الحمل، وقد كانت النفقة تلزم الزوج لو كان حيّاً. فكأنه كانت الإِشارةُ بذلك إلى النَّفقة، فصارت إلى ترك المضارَّة، وهو مذهب مالك المشهور عنه، أن الإِشارة في قوله: f]وعلى الوارثِ مثلُ ذلك" إلى ترك المضارَّة، وقد رواه عن مالك ابن وهب وأشهبُ. والنسخ بالإِجماع لا يقول به مالك. وقد قال جماعة من العلماء: الإِشارةُ] بذلك إلى النفقة، ولا نسخ في الآية. واخْتُلِفَ في الوارث مَن هو؟ فقيل: هو وارث المولود لو مات. وقيل: هو وارث الولاية على المولود. وهو الصواب - إن شاء الله -: يكون عليه من نفقة أُم المولود من مال المولود مثل (ما) كان على الأب، إن حَمَلْتَ الإِشارةَ على النفقة. فإن حملْتَها على ترك المضارَّة كان معناه: وعلى وارث ولاية المولود أن لا يضارَّ بالأُم. وكِلا القولين على هذا المعنى حَسَنٌ صواب. ويجوز أن تَحْمِلَ الإِشارةَ بذلك على النَّفقة وعلى ترك المضارَّة جميعاً، أي على مَن يرثُ الولايةَ على المولود ترك مضارَّة الأم، وعليه النفقةُ عليها من مال المولود. وقال السُّدِّي وقتادة: على وارث الطِّفل مثلُ الذي على الأب لو كان حيّاً (من النفقة) - وقاله الحسن -. وفي "الوارث" ومعناه أقوال غيرُ هذا تركتُ ذِكرَها لضعفها. والاختيار: أن يكون "الوارثُ" معناه: وارثُ الولاية على المولود - على ما قدَّمنا -. ولا ينكر أن يسمى انتقال الوِلاية وراثةً، فقد قال زكريَّا - صلى الله عليه وسلم -: {فَهَبْ لِي مِن لَدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى ويَرِثُ مِن آلِ يعقُوب} [مريم: 6]، قيل معناه: يَرِثُ النبوَّة لا المال. وقد قيل: معنى الآية: وعلى الصبيِّ المولود - وهو وارث الأب - نفقة أُمِّه من ماله إن كان له مال، ولم يكن له أب - وهو اختيار الطبري، وهو قول الضّحاك -. فالوارثُ - على هذا القول -: اسم المولود. لأنه وارثُ الزَّوج - وهو الأبُ الميِّتُ، والدُه - وهو قولٌ حسن. وعن ابن عباس في معنى ذلك: وعلى وارث الصَّبيِّ من أَجر الرّضاع مثلُ ما كان على أبيه إن لم يكن للصَّبىِّ مال. وقال قتادةُ: على ورثة الصَّبِيِّ أن ينفقوا عليه على قدر ميراثِ كُلِّ واحدٍ منهم. وبه قال أَهلُ العراق.فالآية محكمةٌ عندهم.
23 - الآية الثالثة والعشرون: قوله تعالى: (وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الآية [240 / البقرة] منسوخة وناسخها قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) [234 / البقرة] وليس في كتاب الله آية تقدم ناسخها على منسوخها وآية أخرى في الأحزاب (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) [50 مدنية / الأحزاب / 33]هذه الناسخة والمنسوخة (لا يحل لك النساء من بعد...) الآية [52 مدنية / الأحزاب / 33].
أكثرُ العلماء على أن الآيةَ ناسخةٌ للآية التي بعدها، وهي قوله: {والذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أزواجاً وصيَّةً لأَِزْوَاجِهِم مَتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غيرَ إخراج} [البقرة: 240]. فَأَوجَبَت هذه الآيةُ للمتوفى عنها زوجُها أن يُنْفِقَ عليها سنةً من مال المتوفَّى، وتسكنَ سنةً ما لم تخرج وتتزوج.
ثم نُسِخَت النفقة بآيةِ المواريث في النساء، وبقوله - عليه السلام -: "لاَ وَصِيَّةَ لِوارث" ونُسِخَ الحولُ بأربعةِ أشهرٍ وعشراً.
وذكر ابنُ حبيب أن الحرَّةَ (كانت) إذا توفِّيَ عنها زوجُها خُيِّرت إن شاءت أن تقيمَ في بيتِ زوجها وينفق عليها من ماله سنة فإن أَبَت إلا الخروج لم يكن لها شيءٌ (من) ماله فَنُسِخَ ذلك بالمواريث في النساء.
وهذا مما تَقَدَّم الناسخُ فيه على المنسوخ في رُتبةِ التَّأليف للقرآن، وحقُّ الناسخ في النّظر أن يأتيَ بعد المنسوخ: لأَن الناسخَ ثانٍ أبداً، والمنسوخَ متقدمٌ أبداً.
وإنما استُغْرِبَ هذا؛ (لأنه) في سورةٍ واحدةٍ، ولو كان في سورتين لم يُنْكَر أن يكونَ الناسخُ في الترتيبِ قبلَ المنسوخ، فهو كثيرٌ من سورتين، لأن السورةَ لم تُؤَلَّف في التَّقديم والتأخير على النزول، أَلا ترى أنّ كثيراً من المكِّيِّ بعد المدني، والمكيُّ نزل أولاً. وإنّما (حُكِمَ في) هذا بأن الأَوَّلَ نسخ الثاني دونَ أن ينسخَ الثاني الأَولَ على رتبة الناسخ والمنسوخ بالإِجماع (على أَنَّ) المتوفى عنها زوْجها ليس عليها أن تعتدَّ سنةً، وأَنَّ عِدَّتَها أربعةُ أَشهرٍ وعشراً، ولحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: "إنَّما هيَ أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ، وقد كانت إحداكُنَّ في الجاهلية ترمي بالبَعَرَة عند رأس الحول". فبيَّن أن الحولَ أمرٌ كان في الجاهليَّة وأن العِدَّةَ في الإِسلام أربعةُ أشهرٍ وعشر، والنبي - عليه السلام -. يبيّن القرآن فقد بيَّنه، فَعُلِمَ أن الأولَ ناسخٌ للثاني وعُلِمَ أن الأُولى في التلاوة نزلت بعد الثانية ناسخةً لها.
وقد قيل: إنَّ هذا ليس بنسخ؛ وإنما هو نقصانٌ من الحول لم ينسخ الحولُ كُلُّه إنما نقص منه. ويلزم قائلَ هذا أن يكونَ قولُه تعالى: {وإن يكُن مِنكُم مائةٌ صابِرةٌ يغلبوا مائتين} ليس بناسخٍ لما قبلَه إنما هو نقصانٌ مما قبلَه. وكونُه منسوخاً أَبينُ في المعنى وعليه أَكثرُ العلماء؛ لأنه إزالةُ حُكْمٍ ووضعُ حُكْمٍ آخرَ مَوْضِعَه مُنْفَصلٍ منه. وقد قال ابنُ مسعود: إنَّ قولَه: {يَتَرَبَّصْنَ بأَنفُسِهِنَّ أَربعةَ أَشهرٍ وعشراً} نُسِخَ منها الحواملُ بقولِه: {وَأُولاتُ الأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] والذي عليه أهلُ النَّظر أنه تخصيصٌ وبيانٌ بأَنَّ آيةَ البقرةِ في غيرِ الحواملِ والمعنى: ويذرون أزواجاً غيرَ حوامل يتربصْنَ بعدهم أربعة أشهرٍ وعشراً.
وقيل في: "وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "
فقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَعروفٍ}: ذكر ابنُ حبيبٍ أن قولَه تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أنفُسِهِنَّ مِن مَعْرُوف}: منسوخٌ بقولِه: {والذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُم ويَذَرُونَ أَزوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشراً} [البقرة: 234] فصار التربُّصُ عزيمةً لا خيار لهنَّ في ذلك، وكُنَّ في السُّنَّةِ مُخَيَّرات.
24 - الآية الرابعة والعشرون: قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .الآية [256 / البقرة / 2] منسوخة وناسخها قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...) الآية [5 مدنية / التوبة / 9].
فهذه الآيةُ عند جماعةٍ منسوخةٌ بقوله: {يا أَيُّها النَّبِيُّ جَاهِد الكُفَّارَ والمُنَافِقِين واغلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، جعلوها عامَّة، فلم يرضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ نزولها من العربِ إِلاَّ بالإِسلام وإكراهِهِمْ عليه.
وقد رُوِيَ عن عمرَ أَنه عَرَض على مملوك له الإِسلامَ فأَبى فترَكَه ولم يكْرِهْهُ، فهي - على هذا القول - محكمة. وقد قيلَ: إن الآيةَ مخصوصةٌ نزلت في أهل الكتابِ ألاَّ يُكْرَهوا إذا أَدَّوا الجزيةَ، ودلَّ على أنها في أَهلِ الكتاب قولُه: {يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِد الكُفَّارَ والمُنَافِقِين} [التوبة: 73] ولم يذكُرْ (أهلاً لِكتاب).
ودلَّ على ذلك أيضاً قولُه: {قَاتِلُوا الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ وَلاَ باليَوم الآخِر ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّم اللهُ ورسولُه ولاَ يَدِينونَ دينَ الحقِّ مِن الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرون} [التوبة: 29]. فقد مَنع مِن قِتالهم وإكراهِهم إذا أَعطَوا الجزيةَ.
وقال ابنُ عباس: الآيةُ محكمةٌ مخضوضةٌ نزلت في أبناء الأنصار، وذلك أن الأنصارَ كان تتزوجُ في اليهودِ بني النضير، وكانت المرأةُ منهم تجعل على نفسِها إن عاشَ لها ولد أَن يُهَوِّدوه، فلما أجْلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني النَّضير، وأَخرجَهم من جزيرة العرب، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالَت الأنصار: لا ندع أبناءَنا، فأَنزَل الله: لا إكراه في الدين، فكان مَن (شاءَ لَحِقَ) بأبيه، ومَن شاء لَم يلْحَق.
وقال الشعبي: نزلت هذه الآيةُ في قومٍ من الأنصار كانوا يُهَوِّدونَ أبناءَهم قبل الإِسلام، إذ لا يعلَمون ديناً أفضلَ من اليهوديَّةِ، فلمَّا أتى الله بالإِسلام وأسلَم الآباءُ أرادوا أن يُكْرِهوا أبناءَهم على الإِسلام، فأنزل اللهُ: {لاَ إكراهَ فِي الدِّين}. وقال أبو عبيد: وَجْهُها عندي أن تكون لأَهل الذِّمَّة، يعني لا يكرهون على الإِسلام إذا أَدَّوا الجزية. فالآية محكمة على هذه الأقوال. وهو الأظهر فيها والأولى.
25 - الآية الخامسة والعشرون: قوله تعالى: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) الآية [282 / البقرة] منسوخة
فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمَّىً فاكْتُبُوه}. أَمر اللهُ - جلَّ ذِكْرُه - في هذه الآية بكتابِ الدَّيْنِ للتَّوَثُّق من الذي عليه الدَّيْن لئلا يجحدَ أو يموت. وقال بعد ذلك: {وأَشْهِدوا إذَا تَبَايَعْتُمْ}، فأَمرَ بالإِشهادِ أَمراً عاماً. وقال: {وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِه}، فأَكَّدَ إيجابَ ذلكَ عَلَيهم. ثم نَسَخَ ذلك وخَفَّفَه بقولِه: {فإِنْ أَمِنَ بَعضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذِي اؤتمِنَ أَمَانَتَه} [البقرة: 283] - وهذا قولُ أبي سعيد الخدري والحسن وابن زيد والحكم والشعبي ومالك وجماعةٍ من العلماء -. فيكونُ هذا - على هذا القول - مِمَّا نُسِخَ فرضُه بغيرِ فرض. بل نحنُ مُخَيَّرون في فعل الأوّلِ وتركِه، مَن شاءَ كَتَب (ومَن شاءَ لم يَكتُب) ومن شاءَ أشْهَد، ومن شاء لم يُشْهد. وقال مالكٌ وغيرُه: هو نَدْبٌ وإرشَادٌ لا فرضٌ. فلا نسخَ فيه - على هذا القول -. لكن يحتاجُ هذا القولُ إلى دليلٍ يُخْرِجُ لفظَ الأمرِ إلى معنى الإِرشادِ والنَّدب، وإلاَّ فالكلام على (ظاهره أمر) حتم. والذي يدل على أنه ندبٌ غيرُ حتم، قولُه: {فإن أَمِنَ بَعْضُكُم بعضاً فَلْيؤدِّ} [البقرة: 283] الآية، وقولُه: {وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] - ولم يقل أَحلَّه ببيِّنة -. وحملُه على الإِرشاد والنّدب قولُ أكثر العلماء وهو الصواب - إن شاء الله -.
قال ابن شعبان. الأمر بالإِشهاد منسوخ بقوله: {وأَحَلَّ الله البيعَ}، ولم يذكر معَه إشهاداً.
ويدلُّ على أن الإِشهادَ ليس بفرضٍ إِجماعُ العلماء أنَّ مَن ادّعى على رجلٍ دَيْناً وقال لم أُشْهِد عليه، أنه يُحكَمُ له عليه باليمين إذا أنكر. فلو كان الإِشهادُ فرضاً لم يُحْكَم له عليه باليمين؛ لأنه ترك الفرضَ الذي لزمَه وأتى بدعوى فدلَّ ذلك على إجازةِ البيع بغيرِ إشهاد. ولو كان البيعُ لا يجوز إلاَّ بإشهاد لانفسخت كُلُّ صفقةٍ تُعْقَد بلا إِشهاد، لأنهما عقدا على ما لا يَحِلّ إن كانَ الإِشهادُ فرضاً. فدلَّ ذلكَ على أَنَّه ندبٌ غيرُ حَتْم.
وقالت طائفةٌ مِن العلماء: الآيةُ مُحْكَمةٌ. والإِشهادُ والكتابُ فرضٌ وعلى مَنْ له دَيْنٌ أن يَكْتُبَه إذا وجد كاتباً، قالوا: وَقَولُه: {فَإِن أَمِنَ بعضُكُم بَعضاً} - الآية - إنما ذلك عِندَ عَدَمِ الكاتب والشُّهودِ في السَّفر - وهو قولٌ رُوِيَ عن ابن عمر وابن عبّاس وأبي موسى الأشعري وابن سيرين وأبي قلابة والضَّحاك وجابر بن زيد ومجاهد -.
وقد قال عطاء: أَشْهِدْ إذا بِعْت (أو اشتريت) بدرهم أو بنصف درهم، أو بثُلُثِ درهم - ومثلُه عن الشعبي، وإلى هذا القول ذهب داود، وبه قال الطَّبري - يريدون إذا كانَ التَّبايُع بدَيْنٍ في الثمن أو في المثمن - واستدلّوا على ذلك بأَنَّ الله تعالى قد جعل عِوَض الشُّهود أخذَ الرهن إذا عُدِمَ الكاتبُ والشهودُ، (أو الكتابُ) والشاهدُ. ثم ذكرَ الأمانةَ (بعد عدم) الشاهد والكاتب، فيتركُ أخذَ الرَّهن ويأتمنه على مَالَهُ عليه. وإِنَّما الأمانة عندَ عدَم (الكاتِب والشَّاهد). والعفوُ عن أخذ الرَّهن (إذ لا يجد معه رهناً). والإِشهادُ واجبٌ إذا وجدَ الكاتب والشهودَ أو الشهودَ فقط.
وقال بعضُهم: الآيةُ على الأمر حتى يأتيَ ما يَدُلُّ على أنها ندبٌ وإِرشادٌ. وقد ذكرنا ما يدلُّ على ذلك.
قال أبو محمد: وهذا المذهبُ فيه حَرَجٌ عظيم وضيقٌ يحتاجُ الشيخُ الكبيرُ والعجوزُ الضعيفةُ القليلةُ الحيلةِ وغيرُهم إذا اشتروا أو باعوا في النهار عشرَ مرات فأكثر بثُلث درهم (وبنصف) درهم أن يُشْهِدوا في كل مرَّة إذا لم يقبضوا ما اشتروا في الوقت أو باعوا، وقد قال الله - جلَّ ذكرُه -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَج} [الحج: 78] فنفى فرضَ ما فيه الحرج، وهذا مِن أَعظَمِ الحَرَج.
وقد قال قومٌ: إنَّ هذه الآيةَ تدلُّ على جوازِ التَّبايُعِ إلى أجل عامَّةً فَتَدُلُّ على جواز السَّلَم في كل شيءٍ فهي ناسخة لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندَك، إذ السَّلَمُ: هو بيعُ ما ليسَ عِندَك.
وقال آخرون: الحديثُ مخصوصٌ في غيرِ السَّلَم بإجازةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - (السَّلَمَ) في الشيء المعلومِ إلى أجلٍ معلوم. [فالمعنى: أنه نهى عن بيع ما ليس عندَك مما ليس بسَلَم في شيءٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلوم]. فالحديث مخصوصٌ محكم والآية محكمةٌ على النَّدب.
26 - الآية السادسة والعشرون: قوله تعالى: (للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } هذا محكم ثم قال: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) [284 مدنية / البقرة / 2] فشق نزولها عليهم فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) :"لا تقولوا كما قالت اليهود سمعنا وعصينا ولكن قولوا سمعنا وأطعنا " فلما علم الله تسليمهم لأمره أنزل ناسخ هذه بقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) [286 مدنية / البقرة / 2] وخفف من الوسع بقول تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) [185 مدنية / البقرة / 2].
قال ابنُ عباس: هي منسوخةٌ (بقوله): {لا يُكَلَّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها} [البقرة: 286].
وقال ابن مسعود: وعن أَحدِهما أيضاً أنه قال: هي محكمةٌ لا منسوخةٌ، وأن الله يحاسبُ كُلَّ نفسٍ بما أخفت فيغفرُ للمؤمن ويعاقبُ الكافرَ، وهو قوله: {فيغفرُ لِمن يَشَاء} (وهو المؤمن) {ويُعَذِّبُ مَن يَشاء}. - وهو الكافر - وهذا قولٌ حسن.
وعن ابن عباسٍ أيضاً أنه قال: الآيةُ مخصوصةٌ محكمةٌ نَزَلَت في كِتمان الشَّهادةِ خاصةً. ودلَّ على ذلك تَقَدُّمُ ذكر الشهادة والأَمرُ بتركِ كِتمانها وأدائها - وهو قولُ عكرمة - فهذا أيضاً قولٌ صالح.
| |
|