الداعية للخير داعية نشيط
عدد المساهمات : 543 تاريخ التسجيل : 30/12/2009 العمر : 34 الموقع : yahoo.com
| موضوع: الناسخ والمنسوخ للآيات الواردة في سورة ( البقرة ) ج 1 السبت يناير 24, 2015 2:00 pm | |
| الناسخ والمنسوخ للآيات الواردة في سورة ( البقرة )
اعلم أن نزول المنسوخ بمكة كثير ونزول الناسخ بالمدينة كثير وليس في أم الكتاب شيء منهما فأما في سورة البقرة فعلى النحو التالي:
و سورة البقرة: مدنية ، ففيها ستة وعشرون موضعا (26) ناسخا ومنسوخا.
فأول ذلك قوله: 1 - ( إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) الآية [26 مدنية / البقرة] منسوخة وناسخة قوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) [85 مدنية / آل عمران / 3].
والصَّوابُ أن تكونَ مُحْكَمةً؛ لأنها خبرٌ مِن الله بما يفعلُ (بعبادِه) الّذينَ (كانوا) على أديانِهم قبلَ مَبْعَثِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا لا يُنْسَخُ. لأَِنَّ الله لا يضيعُ أجرَ مَن أحسن عملاً من الأوَّلين والآخرين.
2 - الآية الثانية: قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ) الآية [83 /البقرة] منسوخة وناسخة (آية السيف) قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...) [5 مدنية / التوبة / 9]. فقوله تعالى: {وقُولُوا للنَّاسِ حُسْناً}: من قال: إن معنى الآية: سالموا الناسَ وقابلوهم بالقول الحَسَنِ جعلَها منسوخةً بآيةِ السَّيفِ - وهو قولُ قتادة -. ومن قال معناها: مُروهم بالمعروف وانهوهُم عن المنكر (قال: هي محكمةٌ، إِذْ لا يَصْلُح نسخُ الأمر بالمعروف والنَّهيِ عن المنكر، - وهو قولُ عطاء -).
3 - الآية الثالثة: قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآية [109 / البقرة / 2] منسوخة وناسخها قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر...) إلى قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [29 مدنية / التوبة / 9].
هذه الآيةُ - عند السُّدِّي - منسوخَةٌ بالأمرِ بالقتالِ في (سورة) براءَة وغيرِها، وقد أعلمَنا اللهُ في نَصِّها أنه سيأتي بأمره وينسخُها. وقد قال جماعةٌ: إنها ليست مِن هذا البابِ، (ولا) نسخَ فيها، لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد جعلَ (للعفو والصَّفح) أَجلاً بقولِه: {حتّى يأتىَ الله بأمرِه}. فهو فرضٌ أَعلَمَنا (الله) أنه سينقُلُنا عنه في وقتٍ آخر. والمنسوخُ لا يكونُ محدوداً بوقتٍ، إنما يكون مُطلقاً. (قال أبو محمد): والقولُ بأنها منسوخةٌ أَبْيَن لأنَّ الوقتَ الّذي تعلَّقَ به الأمرُ بالعفوِ والصَّفْح غيرُ معلوم حَدُّه وأَمَدُه. ولو حَدَّ الوقتَ وبيَّنه فقال: إلى وقتِ كذا لكان كونُ الآيةِ غيرَ (منسوخة) أبين.وكِلا القولين حسنٌ - إن شاء الله -.
4 - الآية الرابعة: قوله تعالى: (وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [115مدنية / البقرة / 2] هذا محكم والمنسوخ منها قوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) الآية [115 / البقرة] منسوخة وناسخة قوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [144 مدنية / البقرة / 2].
قوله تعالى: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله} ظاهرُ هذا يَدُلُّ على جوازِ الصَّلاةِ إلى كُلِّ جهةٍ من شرقٍ وغربٍ وغيرِه. وهو منسوخٌ - عند مالك وأصحابه - بقوله: {فولِّ وجهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرام} [البقرة: 144، 149، 150] فيكونُ هذا مما نُسِخَ قبل العمل به؛ لأنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابُه صلَّوا في سفرٍ ولا حضرٍ فريضةً إلى حيثما توجَّهوا. ونَسْخُها بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَام} وهو أيضاً قولُ قتادة، وابنُ زيد، وهو مرويٌّ عن ابن عباس والحسن. وللعلماء في هذه الآية خمسة أقوال غيرَ القول الذي ذكرنا: الأول: قولُ مجاهد والضحاك: قالا: هي ناسخةٌ للصَّلاة إلى بيت المقدس لأن اليهودَ أنكروا رجُوعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبةِ وتركَ بيت المقدس، وقالوا: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِى كَانُوا عَلَيْهَا}؟ [البقرة: 142] فأنزل الله: {قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمغْرِبُ} وأنزل تعالى: {فأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ الله} [البقرة: 115] أي: فثمّ جِهةُ الله التي أمر بها. وقيل: الذين أنكروا ذلك همُ العربُ الكفارُ، وهم السّفهاء. الثاني: قول النخعي: قال: هي مخصوصةٌ محكمةٌ نزلت فيمن جَهِل القبلةَ له أن يُصَلِّي أينما تَوَجَّه ولا إعادةَ عليه. وعليه الإِعادةُ عند مالك وأصحابه في الوقت. وهو خارجٌ عن الأصول. الثالث: قاله بعضُ أهل المعاني: قالوا هي محكمةٌ مخصوصةٌ في صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي حينَ صلَّى عليه، واستقبل جِهَتَهُ إلى غيرِ قبلة، فهي خصوصٌ للنبي - عليه السلام -. الرابع: قاله بعضُ أهل المعاني، قالوا: الآيةُ مخصوصةٌ في الدُّعاء، ومعناها: ادعوا كيف شِئْتُم مستقبلين القبلةَ وغيرَ مستقبلين، الله يسمع ذلك كُلَّه. الخامس: قيل إنها مخصوصةٌ في صلاةِ المسافر للنوافل على راحِلَته، يُصَلِّي أينما توجَّهت به راحِلَتُه، وهو جارٍ على مذهب مالك وأصحابه.
" قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ " قوله تعالى: {فولِّ وَجْهَكَ شطرَ المسجدِ الحرامِ وحَيْثُما كُنتم فولُّوا وجوهَكُم شطرَه}: هذه الآيةُ عند أكثرِ (المفسرين) وأهلِ المعاني ناسخةٌ (لِلصّلاة إلى بيتِ) المقدسِ، وهي عندَهم أَوَّلُ ما نُسِخ. وإذا (كان) هذا أَوَّلَ ناسخٍ ومنسوخٍ - على قول جميعِهم - والناسخ والمنسوخ مدنيُّ - فواجبٌ أن لا يكونَ ناسخٌ ومنسوخٌ مكيّاً؛ إِذ أَوَّلُ النسخِ عندَهُم إنّما حدَث بالمدينة، وكان نسخُ القبلةِ بعدَ الهجرة بستَّةَ عشرَ شهراً، وقيل سبعةَ عشَرَ شهراً، إلا أن يكونوا أرادوا بقولِهم (هذا): أَوَّلَ ناسخٍ ومنسوخٍ، يعنون: بالمدينة، فيجوز أن يكون ثَمَّ مكيٌّ نَسَخَ مكِّياً. ولم أَجدْه مجمعاً عليه، وسترى ما وجَدْتُ منه. واختُلِفَ في صَلاةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتِ المقدس، هل كان بأمرٍ من الله - عزَّ وجلَّ - أو باختيارِه؟ فقال جماعةٌ: كانَ بأمرٍ مِن الله، بدليل قوله: {وما جَعَلْنَا القِبْلَةَ التي كُنْتَ عَلَيْهَا} - يعني بيتَ المقدس - وقد قيل: القِبلَةُ في هذه الآية: الكعبة، و"كُنْتَ": بمعنى: أنت. فلا حُجَّةَ فيه لمن استدلَّ به على أَن النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدِس بأمرٍ (مِن) الله - على هذا القول -؛ لأَِنَّ القبلةَ في قوله: {الَّتى كُنْتَ عليها} مرادٌ بها الكعبة. (وعلى) القول الأول، يراد بها بيتُ المقدس. و"كنتَ" بمعنى: أنت، جائزٌ على أن (تكون "كان" زائدةً). وقد قيل في قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ} معناه: أنتُم خيرُ أُمَّة.
قال ابنُ زيد: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه بِمكَّةَ يُصَلُّونَ نحو الكعبة ثمانيَ سنين. قال وكانوا يُصَلُّونَ ركعتيْنِ بالغداةِ وركعَتيْنِ بالعشيّ، فلما فَرَضَ اللهُ "خمسَ صلواتٍ"؛ إِذْ عَرَجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صارت الركعتان لِلمسافر. قال: فلما هاجَرَ النبيُّ - عليه السلام - إلى المدينة أَمرَه (الله - عزَّ وجيل -) بالصَّلاة نحو بيتِ المقدس. وعنه أيضاً أنه قال: لما قَدِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، قال: ما ندري أين نتوجه؟ فأنزل اللهُ: {وَلِلَّهِ المشرقُ والمغربُ فأينما تُولُّوا فَثَمَّ وجهُ الله} [البقرة: 115] فصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوَ بيتِ المقدس ستَّةَ عشَرَ شهراً، فتكلَّمَت اليهودُ فقالوا: ما درى محمدٌ وأصحابُه. ولا اهتدوا لِقِبْلَتِهم إلا بنا، فشقَّ ذلك على النبيِّ - عليه السلام فَنَسَخَ اللهُ القبلةَ، (وأَمرَه) بالصَّلاة نحو الكعبة.
وقال ابنُ حبيب: كان الله - جلّ وعزَّ - قد أَمرَ نبيَّه أن يقتدِيَ بمن كان قبلَه من الأنبياء، يريدُ بقوله: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام: 90]. قال: فلمَّا قَدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ صلّى نحو البيت المقدس؛ لأنها كانت قبلةَ جماعةٍ من الأنبياء قبلَه. ثم شقَّ على النبي قولُ اليهود في القبلةِ. فنسخَ اللهُ ذلك بالكعبة.
وقد قيل: إن الله - جلَّ ذكرُه - كان قد فرضَ على إبراهيم [- خليله - الصَّلاَةَ نحو الكعبة، ودلَّ (على) ذلك قولُه {واتَّخذُوا مِن مَقام إبراهِيم] مُصَلَّى} - على قراءة من قرأ بفتح الخاء - على الخبر -. ثم أمر الله نبيّه - بغير قرآن - بالصَّلاة نحو بيت المقدس، فصلَّى نحوها (بضعةَ عشرَ) شهراً، وكان يُحِبُّ التَّوَجُّهَ إلى الكعبةِ. فَنَسَخَ (الله) الصَّلاة نحو بيتِ المقدس بالصَّلاة إلى الكعبةِ، فصار المنسوخُ ناسخاً لِما نسخَه اللهُ قبلُ. وهذا قليلُ النَّظير في الناسخ والمنسوخ. فهذا كُلُّه يدُلُّ على أن الصلاةَ نحو بيتِ المقدس [كان بأمرِ الله له، فهو نَسْخُ قرآن بقرآن. وقد رُوِيَ أن الأنصارَ (صلَّت نحو بيت المقدس] قبلَ قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - حَوْلين). فلما قَدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى نحو (بيتِ المقدس) بضعةَ عشرَ شهراً، وكانت نفسُه تائقةً إلى قِبلة أبيه إبراهيم. فأمره اللهُ باستقبالها. وقيل: بل صلَّى نحو بيتِ المقدِس لِيَتأَلَّفَ بذلك اليهود؛ وذلك أنه هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثرُ أهلِها ومَنْ حواليها اليهودَ، فصلَّى نحو بيتِ المقدس، ليتألَّفَ بذلك اليهودَ، فطعنوا في ذلك وتكلَّموا فيه بما شقَّ على النبيِّ وأصحابِه. فأمر اللهُ بالصلاةِ نحو الكعبةِ. فيكون - على هذا القولِ - مِن نَسْخِ السُّنة بالقرآن -. والشَّطْر: النحو - في الآية -.
5 - الآية الخامسة: قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ) الآية [159 / مدنية / البقرة / 2] نسخها الله تعالى بالاستثناء فقال: (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) [159 / البقرة].
6 - الآية السادسة: قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم...) الآية [173 مدنية / البقرة / 2] فنسخ بالسنة بعض الميتة وبعض الدم بقوله (صلى الله عليه وسلم)" أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال" وقال سبحانه: (وما أهل به لغير الله) ثم رخص للمضطر إذ كان غير باغ ولا عاد بقوله تعالى: (فلا إثم عليه).
7 - الآية السابعة: قوله تعالى: ( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [178 / البقرة] وها هنا موضع النسخ من الآية الأنثى وباقيها محكم وناسخها قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية [45 / المائدة] وقيل ناسخها قوله في سورة بني إسرائيل (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) [33 مدنية / الإسراء / 17] وقتل الحر بالعبد إسراف وكذلك قتل المسلم بالكافر.
فقوله تعالى: {يا أَيُّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكُمُ القِصاصُ في القتلى} الآية. يجبُ مِن ظاهِر لفظِ الآية أن لا يُقْتَلَ الرَّجُلُ بالمرأة، ولا المرأةُ بالرَّجُل، ولا العبدُ بالحُرِّ (ولا الحُرُّ بالعبد). وقال ابن عباس: هذا منسوخٌ بقوله في المائدة: {النَّفْس بالنَّفْس} [المائدة: 45]. فهذه (الآيةُ) أَوْجَبَت قَتْلَ الرَّجُلِ بالمرأةِ، والمرأةِ بالرَّجُل، والعبدَ بالحُرِّ، وهذا لا يجوزُ عند جماعةٍ مِن العلماء؛ لأَنَّ ما فرضَه الله علينا لا ينسخُه ما حكى اللهُ لنا من شريعةِ غيرِنا؛ إنّما أخبرنا الله - في المائدةِ - بما شَرَع لِغيرنا، لم يفرضْه علينا، فيكونَ ناسخاً لما تقدَّم من سُنَّةِ الفرضِ علينا. وَلكِنْ: الآيتانِ مُحْكمتان لا نسخَ في واحدةٍ منهما، على ما نبيِّنُه بعد - إن شاءَ الله تعالى -. وفي هذه الآية أَربعةُ أقوالٍ غير (القول الأول) الذي ذكرناه: الأول: قاله الشعبي وغيرُه، قالوا: آيةُ البقرةِ مخصوصةٌ نزلت في قوم تقاتلوا، فقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ وكانت إحدى الطَّائفتين أعزَّ من الأُخرى، فقالت العزيزةُ: لا يُقتلُ العبدُ منّا إلا بالحرِّ مِنكُم، ولا بالأنثى منّا إلا بالرَّجلُ منكُم، فنزلت الآيةُ في ذلك، ثم هي في كُلِّ مَن أراد أن يفعلَ كفِعْلِهِم، فهي محكمة. الثاني: قاله السُّدِّي، قال: هي مخصوصةٌ في فريقين تقاتلا على عهدِ النبي - عليه السلام - ووقع بينَهما قتلى، فأمر النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - أن يفادَى بينهم، ديّاتُ النّساء بديّات النّساء، وديّات الرّجال بديّات الرّجال، فهي في شيءٍ بعينِه، (وهي تعَبُّدٌ) لمن يأتي بعدَهم، فهي محكمة. الثالث: قاله الحسنُ البصريُّ، قال: نزلت آيةُ البقرةِ في نسخِ التَّراجُع الذي كانوا يفعلونَه، وذلك أنهم كانوا يَحْكُمون فيما بينَهم أَنَّ الرّجُلَ (إذَا قتل امرأةً، كان أولياءُ المرأة بالخيار، إن شاؤوا قتلوا الرَّجُلَ)، وأَدَّوْا نصفَ دِيَتِه، وإن شاؤا أخذوا نصفَ دِيَة رجل. وإذا قتلت المرأة رجلاً، كان أولياء الرجل مخيّرين إن شاءوا قتلوا المرأة وأخذوا نصف دية الرجل وإن شاءوا أخذوا الدِّيَة كاملةً، ولم يقتلوا المرأةَ، فنسخَ اللهُ ذلك مِن فِعْلِهم. وقد روي هذا القولُ عن عليٍّ - رضي الله عنه - فتكونُ هذه الآيةُ - على هذا القول - محكمةً ناسخةً لما كانوا يفعلونه. الرابع: قاله أبو عبيد، قال: (آيةُ المائدة مفسِّرةٌ لآية البقرة؛ لأن أَنْفُسَ) الأحرارِ متساويةٌ فيما بينَهم. وعلى هذا أكثرُ الفقهاء:يُقْتَلُ الحرُّ بالحرِّ والأنثى بالأنثى بآية البقرة وآية المائدة.ويقتلُ الرَّجلُ بالمرأة، والمرأةُ بالرَّجُلِ بآية المائدة. والآيةُ - عند مالك - محكمةٌ، ورُوِي عنه أنه قال: أَحسنُ ما سمعنا في هذه الآية، أنها يُراد بها الجِنسُ، الذَّكَرُ والأنثى فيه سواء. وأشار أَبو عبيدٍ إلى أَن قولَه هو مذهبُ ابن عباس. ومعنى قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيءٌ فاتِّباعٌ بالمعروفِ} [البقرة: 178] - الآية -: قال مؤلفو النّاسخ والمنسوخ: هذا ناسخٌ لما كان عليه بنو إسرائيل من امتناع أخذِ الدِّيَةِ، فخفَّف الله عن هذه الأُمَّة، وأباحَ لهم العفوَ عن القاتل عَمْداً وأَخْد الدِّيَة. (قال أبو محمد): وقد كان يجبُ أَلاَّ (يَذكروا) هذه الآيةَ وشبهَهَا في الناسخ والمنسوخ؛ لأنها كآي القرآن كُلِّها التي نَسَخَت شرائعَ الكفارِ وأهلِ الكتاب، ولو نسخَت آيةً أخرى (لوجبَ) ذكرُها. وقد بيّنا هذا. وفي هذه الآية إشكالٌ - على مذهب مالك - نُبَيِّنهُ إن شاء الله تعالى: المعروفُ مِن مذهبِ مالكٍ وأَصحابِه: أن المعفوَّ له بالديّة وليُّ الدَّم، عُفِيَ له بديّة أُعْطِيَها عِوَضاً من قتل القاتل (فَقبِلَها) والعافي: القاتل عفا عن نفسه بأن بذل الديّة. والتقدير: فمن أُعْطيَ ديّة فقبِلَها فعليه أن يتبعَ المعْطِيَ بالمعروف، وعلى المعطي أن يُؤدِّيَ ما بذل بإحسانٍ. فـ "مَنْ". في قوله: {فَمنْ عُفِيَ له}: اسم وليّ الدم. فاتِّباعٌ بالمعروف: أَمرٌ للوليّ أن يَتْبَعَ القاتلَ فيما بذلَ له من الدِّيَة بمعروف. (وقولُه): وأداءٌ إليه بإحسان: أَمْرٌ للقاتِل أُمِرَ أَن يُؤدِّيَ إلى الوَليِّ ما بذلَ له من الدِّية بإحسان. وفي رجوع الهاءات بيانُ هذا المعنى: فالهاء في "له" وفي "أخيه"، وفي "إليه" يعُدْنَ على الوليّ. والأخُ: هو القاتل. وعفي له - على هذا القول - معناه: يُسِّرَ. (فهذا مذهب مالكٍ وأصحابه).
وقال عبدُ العزيز بنُ أَبي سلمَة: معناها:من أُعطِيَ لَه (من أخيه شيءٌ مِن) العَقْلِ فرضيَ به فِلْيَتْبَعْهُ بالمعروف، وليؤدِّهِ إليه القاتلُ بإِحسان. ومذهبُ غيرِ مالكٍ:أن المعفوَّ له: هو القاتِل. والعافي: وليُّ الدم. وعفي: بمعنى: ترك - على هذا القول -. فاتباع بالمعروف: أمر للوليِّ - مثلُ القول الأول -. وأَداء إليه بإحسان: أمرٌ للقاتل - كالقول الأول -. والأخ - في هذا القول -: وليُّ الدم. و "مَنْ" - في هذا القول -: اسم (القاتل).. والهاء في "له" وفي "أخيه" - على هذا القول -: تعودان على القاتل. والهاء في "إليه" (تعود) على الوليِّ - كالقول الأول -. فأما الترجيح بين المذهبين فليس هذا موضِع ذِكْرِه. وقد قال مالك في قوله تعالى: {أوْ يَعْفُوَا الّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكَاح} [البقرة: 237]: إن العافي: الوليّ بِتَرْكِ ما وجب لابنتِه البكر أو لأَِمَتِه سُمِّيَ عافياً، لأنهُ تركَ ما وجبَ له، وهو ضدُّ قوله في هذه الآية.
وقال غيرُه: العافي: هو الزوج. (قال أبو محمد): ولا عفوَ (له) إذا أَدَّى ما عليه. وهو ضدُّ قوله (في) آية القتل. فَكُلُّ واحدٍ على ضِدِّ قولِه في الآية الأخرى.وإنما شرحْتُ معناها على المذهبين؛ لأني ما رأيتُ أحداً بيَّن ذَلِك ولا كَشفه.
8 - الآية الثامنة: قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ) [180 مدنية / البقرة / 2] هذه الآية منسوخة وناسخها قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) [11 مدنية / النساء / 4].
فقوله تعالى: {الوَصِيَّةُ للوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِين}: الأشهرُ في هذه الآية أنها منسوخةٌ. واختُلِفَ في الناسخ لها ما هو؟ فَمَن أجاز أن تنسخ السُّنةُ المتواترةُ القرآنَ قال: نسخ فرضَ الوصية للوالدين ما تواتر نقلُه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصيَّةَ لوارث". - وقد حكاه أبو الفرج عن مالك كذلك -. ونسخت آية المواريث فرضَ الوصِيَّة للأقربين. ومن منع نسخ القرآن بالسُّنة قال: نُسِختْ الوصِيَّةُ للوالِدَيْن بقوله: {ولأَبويْهِ لِكُلِّ واحد منهما السُّدُسُ} [النساء: 11] - وكذلك قال مالك في الموطأ - ونُسخت الوصيَّةُ للأقربين بالمواريث. ولا حُجَّةَ لمن قال هذا على من قال له: ولمَ (لا) تثبت الوصيَّةَ والفرضَ لهما؟ - لأنَّه مُطْلَقٌ في الموضعين (لم يقل: لا شيء) لوالديه إلا السُّدسان فيكون ناسخاً للوصية. إنما قال: لهما السدسان فرضاً، وقال: لهما الوصية -. (فلا) بُدَّ من استعمال قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصيَّة لوارث".
وقد يحتجُّ مَن قال: نَسختْ آيةُ المواريث الوصيَّةَ بأن المواريث قد حدَّ فيها قدراً معروفاً، والوصيَّةُ لم يحُد فيها قدراً معروفاً، فكان المحدود أولى من غير المحدود، وله من الحجَّةِ غيرُ ذلك. وقد روى ابنُ وهبٍ وابنُ القاسم عن مالك أنه قال: نزلَت هذه الآيةُ قبل الفرائض، ثم أنزل اللهُ فرائضَ المواريث، فنسخَت المواريثُ الوصيةَ للوالدين ولكل وارث، إلا أن يأذنَ الورثةُ - وكذلك قال ابنُ شهاب والحسنُ وعطاء وزيد بن أسلم -. وقيل: الأحسنُ: أن يكونَ نسخَ الوصيةَ للوالدين قولُهُ: "لا وصيةَ لوارث". لأن الله لما ذكر فرض الوالديْن، قال بعدَه: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ}، فقد كان يجوز أن يُثْبِتَ لهما الفرضَ المذكورَ مِن بعد ما يوصي لهما به بنصِّ القرآن، فَنَسْخُ الوصية للوالدين بآية المواريث فيه إشكال لاتِّصال قوله: {مِن بعدِ وصيَّةٍ يوصي بها أو ديْن} بفرضِ الوالديْن. فالنَّسخُ بالسنّة أولى به إِذْ لا إشكالَ في ذلك.
- على أنه قد أجمعَ (المفسرون) أنّ قولَه: {الوصيّةُ للوَالِدَيْن} نزل قبل نزولِ آيةِ المواريثِ، ففي هذا قُوَّةٌ لِنسخِ الوصيَّة للوالديْن بآيةِ المواريث -.
وكذلك الكلام في نسخ الوصيَّة للزّوجات، في قوله: {وصيّةً لأَزوَاجِهِم} [البقرة: 240]؛ لأن بعدَ فرضِهِنّ: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ}، فنسخ ذلك بالسُّنة (أولى) وأحسنُ عند قوم لما ذكرنا أولاً فافهمه.
وقد قيل: بل نَسخَ الوصيَّة للأقربين التخصيصُ في قوله: {وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى واليَتَامَى} [النساء: 8] - الآية -. فحضّ الله على أن يعطوا إذا حضروا، ولو لم يُفْرَض لهم ذلك، بدَلالة الإِجماع على أن اليتامى والمساكين المذكورين مع أُولي القربى إذا حضروا القسمةَ (لا فرضَ) لهم يُعطَوْنَه، وقد عُطفوا على الأقربين، فالحكم فيهم واحد لا فرض لجميعِهم. ولكنَّه نَدْبٌ نَسخَ ما كان فرضاً من الوصيَّة لِلأَقربين. وبيَّنَت السُّنَّة أَنَّا غير مُخيَّرين في الوصيَّةِ للوالديْن المنسوخةِ وتركِها؛ إذ قال - صلى الله عليه وسلم - "لا وصيَّة لوارثٍ". وبقي التَّخييرُ لنا في الوصيَّةِ للأقربين غير الوارثين المنسوخة، إن شئنا فَعَلْنا ذلك، وإن شئنا لم نفعلْه، وفعلُه أفضلُ كصوم عاشوراء - وهذا قول مالك وأصحابه وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول مجاهد وابن زيد، وهو قول ابن عمر والسُّدِّي -.
وقال قتادةُ والحسن (في هذه) الآية: نُسِخَ منها الوصية للوالدين بآية المواريث، وبقي فرض الوصية للأقربين ممّن لا يرث، وهو اختيار الطبري. وقد قال الضحاك: من مات ولم يوصِ لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية.
وقال الحسن: إذا أوصى الرَّجلُ لغير ذي قرابته بثلثه فلهم ثُلُثُ الثلث، والباقي من الثلث لقرابتهِ - وقاله طاووس -.
وقال الشعبي والنخعي: (الوصيَّةُ للوالدين والأقربين في الآية على الندب) لا على الفرض. فمنعت السنةُ (من جواز الوصية للوالدين وبقيت الوصيَّةُ للأقربين على الندب).
9 - الآية التاسعة: قوله تعالى: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الآية [183 مدنية / البقرة / 2] منسوخة وذلك أنهم كانوا إذا فطروا أكلوا وشربوا وجامعوا النساء ما لم يصلوا العشاء الأخيرة ويناموا قبل ذلك ثم نسخ الله ذلك بقوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ... إلى قوله: (وابتغوا ما كتب الله لكم) [187 / البقرة] في شأن عمر رضي الله عنه والأنصاري لأنهما جامعا معا ونزل في صرفه (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) [187 مدنية / البقرة / 2].
فقوله تعالى: {كُتِبَ عَليكُمُ الصِّيامُ كما كُتِبَ على الذين من قَبلِكُم لعلّكُم تتقون} الآية. قال ابنُ حبيب: هذا من قوله: {فَبِهُداهُمُ اقتَدِه} [الأنعام: 90] وكان المسلمون يقتدون بصيام أهل الكتاب وفِعْلِهم، فكانوا إذا صلُّوا العشاءَ حرُمَ عليهم الطعامُ والشَّرابُ والوطءُ إلى مثلِها من اللَّيْلَةِ القابِلَة. وقيل: كان يلزمُهم ذلك إذا ناموا. فخفَّفَ اللهُ ذلك عنهُم، ونسخَه بقوله: {وكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يتبيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأَبيضُ من الخيطِ الأسودِ} [البقرة: 187] الآية. وبقوله: {أُحِلَّ لكم ليلةَ الصيام الرَّفَثُ إلى نسائِكم} [البقرة 187] - الآية -. ونُسِخَ فرضُ صيام من كان قبلَنا بفرض رمضان. قلتُ: فالآية على قوله منسوخةٌ، أعلَمنا الله فيها أنه فرَضَ علينا مثلَ ما فرض على من كانَ قبلَنا. ثم نسخَ ذلك. وهو قول السُّدِّي وأبي العالية. وقيل: الآيةُ ناسخةٌ وليست بمنسوخةٍ واختُلِفَ في ذلك: فقيل: هو ناسخٌ لما فرَضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أُمتِه من صوم يوم عاشوراء. قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: "كان يومُ عاشوراء يوماً تصومُه قريش في الجاهلية، فلمَّا قدِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، صامه وأَمَر بصيامه. فلما فُرض رمضانُ كان هو الفريضة. وتُرِكَ صيامُ يوم عاشوراء، فمن شاءَ صامه ومن شاء تَرَكَه" - وقاله جابر بن سمرة وغيره -.
وقد قال قومٌ: إن فرضَ صومِ يومِ عاشوراء باقٍ إلى الآن، وهو قول شاذٌّ، غيرُ معمولٍ به. والنَّسخُ (لِصومِ) يومِ عاشوراء كان بالمدينةِ لحديث عائشة - رضيَ الله عنها - وقولها: فلما قَدِم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ صامه، وأمرَ الناس بصيامه؛ لأَن صومَ رمضان بالمدينة فُرِض. وقال ابنُ عباس: هذا ناسخ لما كان (أَمرَ به) النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمَرَ بصيام ثلاثة أيام مِن كُلِّ شهر في أوَّل قدومِه المدينة، وقاله معاذٌ وغيره وقال عطاء: هو ناسخٌ لما فُرِض على من كان قبلنا، كان فُرِض عليهم صوم ثلاثة أيام من كُلِّ شهر، وهو قولُ قتادة. قال أبو محمد: وقولُه تعالى: {عَلِمَ اللهُ أنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفَا} [البقرة: 187]، يدُلُّ (على) أن الله فرضَ علينا ما كان فرَضه على من كان قبلَنا من الصيام وتركِ الطَّعام والشرابِ والوطءِ بعدَ النوم. فهو منسوخٌ (بما) بعدَه، دليلُ ذلك أن الخيانةَ لا تلْحَقُ إِلاَّ مَن تَرَكَ ما أُمِر بِه وفَعَلَ ما نُهِيَ عنه. وقولُه: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}، يدلُّ على ذنبٍ اكتسبوه وهو الوَطءُ والأَكْلُ والشُّرْبُ بعدَ النوم في ليالي الصيام. وكذلك قولُه: {وعَفَا عَنكُمْ} يدلُّ على أنهم أَذنبوا ذنباً عفا لهم عنه، وهو ما ذكرنا. ولا يكونُ الذَّنْبُ إلاَّ عن ركوبِ نهيٍ أو تركِ أمر، فدلَّ على أنه كان مفروضاً عليهم، ثم نُسخ بإباحة الأكل والشرب والوطءِ بعدَ النوم.
وقد قال الشعبيُ والحسنُ ومجاهد: الآيةُ محكمةٌ غيرُ ناسخة ولا منسوخة. وذلك أن الله - جلّ ذكره - كان قد افترضَ على من كان قبلَنا مِن النصارى صومَ رمضان، فحولُّوه عن وقته، ثم زاد كل قَرْنٍ يوماً في أوله للاستبراء والاحتياط ويوماً في آخره حتّى صارَ إلى خمسينَ يوماً، ففرضَ اللهُ علينا صومَه خاصَّة كما كان فرضاً عليهم بقوله: {كُتِبَ عليكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 183]. والكلامُ في إعراب الكاف من قوله: {كما كُتِبَ}، (يصرح بالمعنى) وبُبَيِّنه.
"أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " قوله تعالى: {فالآن باشروهن} الآية: أباح الله تعالى المباشرةَ لِلنّساء ليالي الصِّيام كُلّه إباحةً عامةً، والمباشرةُ: الجماعُ لا اختلافَ في هذا، لقوله تعالى: {وابْتَغُوا مَا كتَبَ اللهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] يعني: الولد. وقد توهَّم قومٌ أنَّ هذا الحُكْمَ منسوخٌ بقوله تعالى: {فاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي المَحِيض} [البقرة: 222]، وليس الأمرُ كذلك. وإنما هو على أحد وجهين: - إما أن يكون تحريمُ وطء الحائض نزلَ قبلَ إباحةِ الوطء ليلةَ الصيام، فنزل ذلك وقد استقرَّ في أنفُسِهم تحريمُ وطء الحائض، فصارت المباشرةُ المباحةُ مخصوصةً (ليلَ الصَّوم) في غيرِ الحائض مِن زوجةٍ أَمَة. - وإمّا أن يكون تحريمُ وطءِ الحائضِ نزلَ بعدَ هذه الآية، فتكون مبيِّنةً لها ومخصِّصةً أنها في غير ذوات الحيض. فلا يجب أن يدخل هذا في الناسخ والمنسوخ. ولو نسخَ إباحةَ المباشرة لم ينسخ (إِلاّ) بمنع ذلك كُلِّه، (فيعودُ) الأمرُ إلى منع الوطءِ في ليلِ الصَّوم. وهذا لا يجوزُ لِلنَّصِّ والإِجماعِ على إباحتِه.
10 - الآية العاشرة: قوله تعالى: ( أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [184 مدنية / البقرة / 2] هذه الآية نصفها منسوخ وناسخها قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) [185 / البقرة] يعني فمن شهد منكم الشهر حيا بالغا صحيحا عاقلا فليصمه.
فقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} الآية: الأشهرُ المعوَّلُ عليه في هذه الآية أنها منسوخةٌ بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ منكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْه} [البقرة: 185]. وذلك أن الله - جلَّ ذكْرُه - فرضَ صوم (شهر) رمضان، (وكان قد) أباحَ بهذه الآيةِ للمقيم القادرِ على الصَّوم أن يُفطِرَ ويطعِمَ عن كل يوم مسكيناً، بقوله: {وعلى الذينَ يُطيقونَه فديةٌ طعامُ مساكين} أي: على الذين يطيقون الصَّومَ ويفطرون فديةٌ، ثم بيَّن الفديةَ، فقال: طعام مسكين يعني: عن كل يوم. ثم نسخَ ذلك بقوله: {فَمَن شَهِدَ منكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْه}، [أي: فمن شهده في المصر صحيحاً فليصُمْه] فأوجبَ عليه الصَّومَ.
قال معاذُ بنُ جبل: لما قال الله - جلَّ ذِكْرُه -: {وعلى الذينَ يطيقونَه فديةٌ طعامُ مساكين}، كان مَن شاءَ صام ومن شاء أَفطر وأَطعَم مسكيناً عن كُلِّ يوم. قال: ثُمَّ أَوجَبَ اللهُ الصِّيامَ على الصحيح المقيم بقوله: {فَمَن شَهِدَ منكُمُ الشَّهْرَ فليَصُمْه}، وثبتَ الإِطعامُ على مَن لا يُطيقُ الصَّومَ إذا أفطرَ مِن كِبَرٍ - وهو قولُ ابن عمر وعِكرمة والحسن وعطاء، وعليه جماعةٌ من العلماء -. وقال مالك: الآيةُ منسوخةٌ والإِطعامُ عَلى الكبير إذا أفطر ولم يُطِق الصَّومَ، وروي عنه أنه استحبَّ الإِطعامَ للكبيرين إذا (أفطرا) ولم يطيقا الصومَ مِن غير إيجاب. وأما الحاملُ تخافُ على نَفْسِها فتفطر فعلَيْها القضاءُ إذا وضَعَت. ولا إِطعامَ عليها لأَِنها مريضةٌ. والمرْضِعُ إذا خَشِيَت على ولدِها فأفطرت فالإِطعامُ عليها مع القضاء إيجابٌ، بخلافِ الحامل والكبيرين؛ (ولأنها) صحيحةٌ، وإنما أَفطرت من أجل ولَدها. فأما المريضُ فلا إطعامَ عليه إذا أفطر ولم يقدِر على الصَّوم، وعليه القضاءُ إذا صحَّ. وكذلك المسافرُ لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي: فعليه صومُ عِدَّةِ ما أفطر من أيام أُخَر، لا غير. وقد روى ابنُ وهب، قال، قال لي مالكٌ في الآية: إنما ذلك في الرَّجُل يمرضُ فيفطرُ ثُمَّ يبرأُ فلا يقضي ما أفطرَ حتَّى يدركَه رمضانٌ آخر من قابل، فعليه أن يبدأَ برمضان الذي أدركَه، ثم يقضي الذي فاته بعد ذلك، ويُطعِمُ عن كلِّ يوم مُدّاً من حنطة. قال مالك: وأما رجل اتَّصَل به المرض إلى أن دخل عليه رمضان المقبل، فليس عليه إطعام وعليه القضاءُ على كُلِّ حال. (قال أبو محمد): وهذا التأويلُ يدلُّ على أن الآيةَ: محكمة عندَه (في هذه) الرِّواية -، ومعنى {الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} - على هذا التأويل -: أي: يطيقون قضاءَ ما عليهم فلا يقضون حتى يأتيَ رمضانٌ آخر فعليهم صومُ الداخل وقضاءُ الفائت بعدَ ذلك وإطعام مُدٍّ عن كل يوم فهي محكمة - على هذا التأويل - وهو قول زيدِ بن اسلم. وقاله ابن شهاب أيضاً. وعنه أنها منسوخةٌ.
وقال قتادةُ: إنما كانَت الرُّخصةُ في الإِفطار والإِطعام للكبيرين يطيقان الصَّومُ، ثم نُسِخَ ذلك بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه}، قال: والرُّخصَةُ باقية للكبيرين اللَّذيْن لا يطيقان الصومَ، يُفْطران ويُطعِمان. وقد روي [مثلُ ذلك] عن ابن عباس. روي (عنه) أنه قال: نزلَت في الكبيرين اللَّذَيْن لا يطيقان الصَّومَ والمريضِ فهي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ - على هذا القول -.
قال أبو محمد: وهذا التأويلُ إنما يَصِحُّ على قراءَة مَن قرأ: "وعلى الذين يُطَوَّقونه - بالتشديد وفتح الطاء - على معنى: يكلفون الصَّومَ ولا يقدرون عليه فيفطرون، وهي قراءة مرويةٌ عن عائشة - رضي الله عنها - وبذلك قرأ ابن جُبَيْر وعطاء وعكرمة.
وقرأ مجاهد: وعلى الذين يَطّوَّقونه - بفتح الياء وتشديد الطَّاء والواو - على معنى: يتكلفونه. أي: يتكلفونَ الصوم ولا يقدرون عليه.
فهي محكمةٌ غيرُ منسوخة - هاتين القراءتين -. وقد رُوِي عن ابن عباس أنه قرأ: يَطيَّقونه - بفتح الياء الأولى وبياء مشددة مفتوحة بعد الطاء -. وقد طُعِنَ في هذه القراءة - بالياء -؛ لأن الفعل عينه "واو" ومعناها كمعنى القراءتين اللَّتَيْنِ قبلها في أن الآية محكمةٌ في الكبيرين والمريض. يُفطِرون إذا لم يقدروا على الصَّوم ويُطعِمون، إلا أنَّ المريضَ يقضي إذا صَحّ، ولا يقضي الكبيران؛ لأنهما لا ينتقلان إلى غير الكِبَر إلاّ أن يكونا مريضين، (أو كانا) صحيحين يقدران على الصوم فيُفْطِرن للمرَض، فلا بدَّ من القضاء - عليهما -. وأكثرُ النَاس على أنه لا إطعام على المريض. وقد ذكر الأشعريُّ عن الحسن في هذه الآية قولاً غريباً قال: إن المعنى: وعلى الذين يُطيقون الإِطعامَ ويعجزون عن الصِّيام طعامُ مساكين وقال: هذا قولٌ مروي عن السَّلَف - وهو قولُ الحسن -. وذكرَ ذلك ابن الأنباري ولم يذكر الحسَن. قال: وذهبَ ذاهبونَ إلى أن الهاء راجعةٌ على الفداء، وقدَّروه: وعلى الذين يطيقونَ الفداء إذا كرهوا الصَّومَ فديةٌ طعامُ مساكين فَنُسِخَ ذلك بما بعدَه. قال: وبنى آخرونَ على أن الهاءَ تعودُ على الفداء أيضاً. والآيةُ غيرُ منسوخة. وقالوا: نزلت الرُّخْصَةُ في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة فالمعنى - على هذا القول -: وعلى الذين يُطيقونَ الفداءَ، ولا يطيقون الصومَ فديةٌ طعام مساكين. وهذا هو قول الأشعري الذي (حكينا) عنه.
11 - الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ) [190 مدنية / البقرة / 2] هذه جميعا محكمة إلا قوله تعالى: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه...) الآية [191 مدينة / البقرة / 2] منسوخة وناسخها قوله تعالى: (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) [191 مدنية 2 البقرة / 2].
فقوله تعالى: {ولا تعتدوا} الآية: قال ابنُ زيد: نسخَها الأمرُ بالقتال وبالقتل للمشركين. وقيل: إنَّها أَوَّلُ ما نزل في إباحة القتال. أُبيحَ لهم أن يقاتلوا من قاتَلهم، (ولا يعتدوا فيقاتلوا من لم يقاتلهم) ثم نُسِخَ النهيُ عن قتال مَن لم يقاتِلُهم بالأمر بالقتال والقتل. وقيل: أَوَّلُ ما نزل في إباحة القِتال، قولُه تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلون بأنهم ظُلموا} [الحج: 39]، فهي مكيَّة وقيل: مدنية. وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن الآيةَ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، لكنَّها مخصوصةٌ في النّهي عن قتل الصِّبيان والنّساء والشيخ الفاني ومن ألقى السَّلَم وكفَّ يدَه. وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن قتلِ هؤلاء، وعن قتل الرُّهبان. فيكونُ معنى الآية: وقاتلوا في سبيل الله الذين فيهم مقدرةٌ على قتالكم، ولا تعتدوا فتقتلوا مَن لَيس له مقدِرةٌ على القتال، ولا مَن (لَيس) من عادته القتالُ، (كالنِّساء والصِّبيان)، والكبير، والرهبان. فهذا كُلُّه محكَمٌ وحكمهُ باق معمولٌ به.
12- الآية الثانية عشرة قوله تعالى :" وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ " قوله تعالى: {ولا تُقاتِلوهم عندَ المسجدِ الحرامِ حتَّى يقاتلوكُم فيه}: قال قتادة: هذا منسوخٌ بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193، الأنفال:39]، أي: شرك وبقوله: {وقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]. وقد قال إسماعيلُ بنُ أُويس: إن قوله: {وَلاَ تُقَاتِلوهُم عِندَ المَسْجِدِ الحَرَام} - الآية - ناسخٌ لِقوله: {واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [النساء: 91] - في النساء -، قال: ثم نسخَها (الله) بقوله في براءة: {فاقتلوا المشركينَ حيثُ وجدتموهم} [التوبة: 5]، فصارت الآية ناسخةً ومنسوخةً، وهو قليلُ النَّظير.
وقال مجاهد: الآيةُ محكمةٌ غيرُ ناسخةٍ ولا منسوخةٍ، لكنَّها مخصوصةٌ (في) النهي عن القتال في الحرم، ولا يحلُّ القتالُ في الحرم إلاّ أن يقاتلوك، وهو قول طاووس. والبيِّن الظاهرُ في الآية أنها منسوخةٌ. وهو قولُ أكثر العلماء؛ لأن قتالَ المشركين فرضٌ لازمٌ في كل موضعٍ كانوا فيه، بقوله (في) براءة: {فاقتلوا المشركينَ حيثُ وجدتموهم} - وبراءة نزلت بعد البقرة بمدة طويلة -
13 -الآية الثالثة عشرة قوله تعالى :" ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ " قال ابنُ عبّاس: إباحةُ الاعتداء منسوخٌ، لأَنَّ الله جلَّ ذكره ردَّه إلى السلطان، ولا يجوز لأحدٍ أن يقتصَّ ممّن اعتدَى عليه إلاَّ بالسلطان، ولا يقطعُ يدَ سارقٍ إلاَّ بالسلطان. (قال أبو محمد): وهذا القولُ إنما يجوزُ على مذهب من أجاز نسخَ القرآن بالسُّنَّة المتواترة. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخها قولُه تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلطاناً} [الإسراء: 33] قال: يأتي السلطانَ حتى ينتصفَ منه له. قال أبو محمد: وهذا (لا) يصِحُّ عن ابن عباس، لأَنَّ السُّلطانَ هاهنا: الحجَّة؛ ولأنَّ سورة "سبحان" مكيةٌ، والبقرة: مدنيةٌ. ولا ينسخُ المكيُّ المدنيَّ؛ لأنه نزل قبلَ المدني، والناسخ لا يصِحُّ أن يكونَ نزولُه إلاَّ بعد المنسوخ. وأيضاً فإنَّ الرُّجوعَ إلى السُّلطان في القصاص، إنما أُخِذَ بالإِجماع، والإِجماع لا ينسخُ القرآنَ لكنه يبيِّنهُ كما تبيِّنُه الأخبارُ من السُنن. فهذا مثل قوله {وجزاءُ سيِّئةٍ سيّئةٌ مثلُها} [الشورى: 40].
وقيل: الآيةُ نزلَت في إباحة قتال مَن قاتلهم إلى الآن في الشَّهرِ الحرام، وفُهِمَ منها منعُ قتال من لم يقاتِلْهُمْ في الشَّهرِ الحرام، وإباحةُ ذلك في غير الشهر الحرام، ثم نُسِخَ ذلك بالأمر بالقتال في الشّهر الحرام، وإن لم يقاتلوهم، بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركينَ حيثُ وَجَدتموهم} [التوبة: 5] في براءة. (قال أبو محمد): وهذا القولُ أَبينُ الأقوال فيها، لكنَّه نسخَ مفهومَ التلاوة. وله نظائرُ ستراها. وقال مجاهد: الآيةُ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، والمعنى: فمن اعتدى عليكم في الحرم فاعتدوا عليه بمثلِ ما اعتدى عليكُم، أي: من قاتلكم (في الحرمِ) فقاتلوه فيه، ولا يحلّ أن تبدؤا بالقتال في الحرَم - عندَه - (إلى الآن).وأكثرُ الناس على خلافه
| |
|