عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما قَالَ :
"
صَلَّى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ صَلَاةَ الخَوْفِ في بَعْضِ أَيَّامِهِ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ معهُ وَطَائِفَةٌ بإزَاءِ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالَّذِينَ معهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبُوا وَجَاءَ الآخَرُونَ، فَصَلَّى بهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قَضَتِ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً رَكْعَةً". قالَ: وَقالَ ابنُ عُمَرَ:
(
فَإِذَا كانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِن ذلكَ فَصَلِّ رَاكِبًا، أَوْ قَائِمًا تُومِئُ إيمَاءً).
صحيح مسلم: 839 واللفظ له ، و أخرجه البخاري (942) عن
نافع مولى ابن عمر ، أنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا،
كانَ إذَا سُئِلَ عن صَلَاةِ الخَوْفِ قَالَ: يَتَقَدَّمُ الإمَامُ وطَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، فيُصَلِّي بهِمُ الإمَامُ رَكْعَةً، وتَكُونُ طَائِفَةٌ منهمْ بيْنَهُمْ وبيْنَ العَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا، فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ معهُ رَكْعَةً، اسْتَأْخَرُوا مَكانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا، ولَا يُسَلِّمُونَ، ويَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فيُصَلُّونَ معهُ رَكْعَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الإمَامُ وقدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَيَقُومُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ فيُصَلُّونَ لأنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أنْ يَنْصَرِفَ الإمَامُ، فَيَكونُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فإنْ كانَ خَوْفٌ هو أشَدَّ مِن ذلكَ، صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا علَى أقْدَامِهِمْ أوْ رُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ أوْ غيرَ مُسْتَقْبِلِيهَا "، قَالَ مَالِكٌ: قَالَ نَافِعٌ:
لا أُرَى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذلكَ إلَّا عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
صحيح البخاري: 4535 شُرِعَتْ صلاةُ الخوفِ؛ تخفيفًا على المجاهدِينَ في سَبيل اللهِ، ورفعًا لِلحرجِ والمشقَّةِ عنهم، وصلاةُ الخوفِ لها أوجُهٌ كثيرةٌ كُلُّها صَحيحةٌ، ومِن هذه الأوجهِ ما أخبَرَ به ابنُ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما في هذا الحديثِ، وهي:
أ
نْ يبدأَ الإمامُ الصَّلاةَ مع طائفةٍ مِنَ الجنودِ، فيصلِّيَ بهم ركعةً وتكونَ الطَّائفةُ الأخرى واقِفةً تُجاهَ العدوِّ متأهِّبةً له، فإذا فرَغَ الإمامُ مِنَ الركعةِ تأخَّرَتْ هذه الطَّائفةُ دونَ أنْ تَسلِّمَ، وأتتِ الطَّائفةُ الأخرى فتُصلِّي ركعةً مع الإمامِ، فإذا سلَّمَ الإمامُ تكونُ كلُّ واحدةٍ مِنَ الطَّائِفتينِ قد صلَّتْ ركعةً واحدةً، فتقومُ كلُّ طائفةٍ منهم وتأتي بركعةٍ ثُمَّ يُسلِّمونَ، فيكونُ كلُّ واحدٍ مِنَ الطَّائفتينِ قد صلَّى ركعتَينِ، فإذا كان الخوفُ أشدَّ مِن ذلك، فإنَّهم يُصلُّونَ على حالِهم سواءٌ كانوا راكبينَ أو ماشيينَ، مستقبلينَ القبلةَ أو غيرَ مستقبليِها.
مسائل من الحديث الشريف:
1: "
صَلاةَ الْخَوْفِ " سُمِّيَت كذلك ؛ لأنها تُصلّى في حال شِدّة الخوف ، أو خوف مُفاجأة العدو ،او من حيوان ، او نار او سيل.
3: "
فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ " في رواية للبخاري : غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ.، فيكون المقصود به "
ذات الرِّقَاع " . بعد خيبر ، وخيبر في السنة السابعة ، وتَعيّن أن تكون ذات الرقاع بعد خيبر لِشهود أبي موسى وأبي هريرة لها ، وهما لم يشهدا خيبر ؛ لتأخّر إسلامهما .
3: المقصود بـ "
الأيام " الأيام المشهودة ، وهي هنا : الغزوة .
4: "
فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ " كان ذلك بعد نُزول آية النساء
(
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) .
وفي حديث
جابر رضي الله عنه :
غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا مِنْ جُهَيْنَةَ .
ومن حديث
ابن عياش الزرقي رضي الله عنه :
سنن الدارقطني: 2/200 قال :
"
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركون عليهم خالد بن الوليد ، وهُم بيننا وبين القبلة ، فَصَلّى بِنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصَبْنا غِرّتهم ، ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم مِن أبنائهم وأنفسهم ، قال : فَنَزَل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) قال : فحضرت فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح ، قال : فَصَفَفْنا خَلْفَه صَفَّين ".
ورواه الإمام أحمد : 1/567، وأبو داود : 1236، وابن حبان:2876 ، وصححه الألباني .5: "
بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ " في رواية للبخاري : "
فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَا لَهُمْ " : الموازاة ، والإزاء : هي الْمُقابَلَة . قال القاضي عياض : وازينا العدو ، أي : قَرَّبْنا مِنه وقابَلْناه .
وقال ابن الأثير : فَوَازَينا العدوّ ، أي : قابلناهم .
وفي " لسان العرب " : والإزاءُ الْمُحَاذاةُ والْمُقَابَلة .
6: فيه
عِظَم قَدْر الصلاة ، فلم يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه وَهُم في حال قِتال ومُصافّة العدوّ .
وأن أداء الصلاة مُتعيّن ولو مع الإخلال بشيء مِن أركانها ، كما في الإيماء بها ، حال الخوف الشديد .وقد عَلِم المشركون بمحبّة المؤمنين للصلاة !
ومن حديث
جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم : 840 ،
"
غَزَوْنَا مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قَوْمًا مِن جُهَيْنَةَ، فَقَاتَلُونَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الظُّهْرَ قالَ المُشْرِكُونَ: لو مِلْنَا عليهم مَيْلَةً لَاقْتَطَعْنَاهُمْ، فأخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذلكَ، فَذَكَرَ ذلكَ لَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ:
وَقالوا: إنَّه سَتَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هي أَحَبُّ إليهِم مِنَ الأوْلَادِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ العَصْرُ قالَ:
صَفَّنَا صَفَّيْنِ، وَالْمُشْرِكُونَ بيْنَنَا وبيْنَ القِبْلَةِ، قالَ:
فَكَبَّرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَكَبَّرْنَا، وَرَكَعَ فَرَكَعْنَا، ثُمَّ سَجَدَ، وَسَجَدَ معهُ الصَّفُّ الأوَّلُ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الأوَّلُ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي، فَقَامُوا مَقَامَ الأوَّلِ، فَكَبَّرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَكَبَّرْنَا، وَرَكَعَ، فَرَكَعْنَا، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ معهُ الصَّفُّ الأوَّلُ، وَقَامَ الثَّانِي، فَلَمَّا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا، سَلَّمَ عليهم رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ. قالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: ثُمَّ خَصَّ جَابِرٌ أَنْ قالَ: كما يُصَلِّي أُمَرَاؤُكُمْ هَؤُلَاءِ.
7: فيه
وُجوب صلاة الجماعة ، فلم يُعذَر الْمُحارِب بِتَرْك الجماعة ، كما لم يُعْذَر الأعمى الذي ليس له قائد يُلائمه ، وهو بعيد الدار ، كما في صحيح مسلم .
8: هذه الصِّفَة التي ذَكَرها ابن عمر رضي الله عنهما هي صِفَة مِن صِفات كثيرة جاءت في صِفات صلاة الخوف ، وهو اختلاف تنوّع .
ومِن أهل العِلْم مَن أوْصَلها إلى
تسع صِفات ، ومنهم مِن أوْصَلها إلى
أربع عشرة ، وإلى
سِتّ عشرة صِفَة .
قال
الخطابي:
صلاة الخوف أنواع صلاّها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة ، يُتوخّى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة .
وقال
القرطبي في " المفهم " :
اختلف الجمهور في كيفية صلاة الخوف على أقوال كثيرة ، لاختلاف الأحاديث المروية في ذلك .
وقال
النووي :
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْره وُجُوهًا أُخَر فِي صَلاة الْخَوْف بِحَيْثُ يَبْلُغ مَجْمُوعهَا سِتَّة عَشَرَ وَجْهًا . وَذَكَرَ اِبْن الْقَصَّار الْمَالِكِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاّهَا فِي عَشْرَة مَوَاطِن . وَالْمُخْتَار أَنَّ هَذِهِ الأَوْجُه كُلّهَا جَائِزَة بِحَسَبِ مَوَاطِنهَا . وَفِيهَا تَفْصِيل وَتَفْرِيع مَشْهُور فِي كُتُب الْفِقْه .
قَالَ
الْخَطَّابِيُّ :
صَلاة الْخَوْف أَنْوَاع صَلاّهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّام مُخْتَلِفَة وَأَشْكَال مُتَبَايِنَة يَتَحَرَّى فِي كُلّهَا مَا هُوَ أَحْوَط لِلصَّلاةِ وَأَبْلَغ فِي الْحِرَاسَة ، فَهِيَ عَلَى اِخْتِلاف صُوَرهَا مُتَّفِقَة الْمَعْنَى .
9:
فيه جاوز أن يُصلّي الإنسان صلاة الخوف في غير القتال ، إلاّ أن الْمُقيم لا يَقصر الصلاة .
قَالَ الإمام
الشّاَفعيُّ :
فَلِلْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ إذا كان آن الْخَوْفُ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلاَةَ الْخَوْفِ ، وَلَيْسَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إلاَّ بِكَمَالِ عَدَدِ صَلاَةِ الْمُقِيمِ ، وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ في صَلاَةِ الْخَوْفِ إنْ شَاءَ لِلسَّفَرِ ، وَإِنْ أَتَمَّ فَصَلاَتُهُ جَائِزَةٌ ، وَأَخْتَارُ له الْقَصْرَ .
وقال
النووي :
قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : صلاة الخوف جائزة في كُلّ قِتال ليس بِحَرام ، سواء كان واجبا ، كَقِتال الكفار والبغاة وقُطاع الطريق إذا قاتلهم الإمام ، وكذا الصائل على حَريم الإنسان أو على نفسه ، إذا أوجبنا الدَّفْع ، أو كان مُباحا مُستوي الطرفين ، كَقِتال مَن قصد مال الإنسان أو مال غيره ، وما أشبه ذلك ، ولا يجوز في القتال الْمُحَرَّم بالإجماع ، كَقِتال أهل العَدْل ، وقِتال أهل الأموال لأخذ أموالهم ، وقتال القبائل عصبية ونحو ذلك .
وقال
أيضا :
إذا كان مُحْرِمًا بِحَجّ ، وهو بِقُرْب عرفات ، ولم يكن وَقَف بها ، ولا صَلى العشاء ، ولم يَبْقَ مِن وقت العشاء والوقوف إلاَّ قَدْر يَسير ، بِحيث لو صَلّى فاته الوقوف ، ولو ذهب إلى الوقوف لفاتته الصلاة وأدْرَك الوقوف ؛ ففيه ثلاثة أوجه :
الثالث منها : يُصَلِّي صلاة الخوف ماشِيا ، فَيُحَصِّل الحج والصلاة جميعا ، ويكون هذا عُذْرا مِن أعذار صلاة شدة الخوف .وقال
ابن رجب :
فأما قصر الصلاة في حال الخوف في الحضَر ، فالجمهور على منعه .
10: في هذه الصِّفَة
يُصلِّي الإمام ركعة ويظلّ قائما ، وتُتِمّ الطائفة الأولى ركعة ثانية لأنفسهم ، كُلّ على حِدَة ، ثم يُسلِّمون ويَنصَرِفون ، ثم تأتي الطائفة الثانية فتُصلّي مع الإمام ركعة ، ثم يجلس الإمام حتى يُتِمّون ، فيُسلّمون جميعا ( الإمام والطائفة الثانية ) .
ويُحتمل على ما في رواية
الترمذي :
صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك ، وجاء أولئك فَصَلَّى بهم ركعة أخرى ثم سَلّم عليهم ، فقام هؤلاء فقضوا ركعتهم ، وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم .
أي : يكون صلّى بالطائفة الثانية ركعة ثم سلّم ، فقاموا يقضون ركعة . فتكون كل طائفة صلّت ركعة مع الإمام وقَضَتْ ركعة على انفراد .
قال
الترمذي : ورُوي عن غير واحد : أ
ن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة ركعة ، فكانت للنبي صلى الله عليه و سلم ركعتان ، ولهم ركعة ركعة . اهـ .
وهذه صِفة لا يُمكن أن يُقاس عليها ؛ لأنها صِفة مُنفردة عن صلاة الأمن والحضر والسفر ؛ ولأن الأصول لا يُقاس بعضها على بعض ، كما قال العلماء .
ولا يصح الانفراد عن الإمام ، إلاّ باستئناف الصلاة ، كما في قصة الرجل الذي انفرد عن معاذ ، فإنها استأنف صلاته ، كما عند مسلم .
قال
القرطبي :
هذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يُحتاج إليها والمسلمون مُستدبرون القبلة ووجه العدو القبلة ، وإنما اتفق هذا بذات الرقاع ، فأما بِعُسْفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة . اهـ .
11:
اخْتَلاف صِفة صلاة المغرب في حال الخوف .
قال
القرطبي :
اختلفوا في كيفية صلاة المغرب ؛ فَرَوى الدارقطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا ، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم سِتًّا ، وللقوم ثلاثا ثلاثا ، وبه قال الحسن . والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا ، وهو أنه يُصَلِّي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ، وتُقْضَى على اختلاف أصولهم فيه متى يكون ؟ هل قبل سَلام الإمام أو بعده ؟
هذا قول مالك وأبي حنيفة ، لأنه أحْفظ لِهَيئة الصلاة .
وقال الشافعي : يُصَلي بالأولى ركعة ، لأن عَلِيًّا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير ، والله تعالى أعلم . اهـ .
12: في الحديث
لم يُذْكَر في هذه الصِّفات حَمْل السِّلاح ، وهو مُصرَّح به في الآية ، وفي أحاديث أخرى .
وفي حديث
أبي عياش الزرقي رضي الله عنه قال :
فأمَرَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخَذُوا السلاح ، قال : فَصَفَفْنا خَلْفَه صَفَّين . وقد تقدّم الحديث .
وينظر في تفسير القرطبي (5/346 -355) ،وذلك في تفسير آية النساء : (
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) .
13: في الحديث
إذا اشتدّ الخوف ، صلّوا على حسب استطاعتهم .
وفي رواية للبخاري قال
ابن عمر :
فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالا ، قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا ، مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا . قَالَ مَالِكٌ : قَالَ نَافِعٌ : لا أُرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلاَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وفي رواية لمسلم :
فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَلِّ رَاكِبًا أَوْ قَائِمًا تُومِئُ إِيمَاءً .
قال
الخرقي :
وَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ شَدِيدًا ، وَهُمْ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ ، صَلَّوْا رِجَالا وَرُكْبَانًا ، إلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِهَا ، يُومِئُونَ إيمَاءً ، يَبْتَدِئُونَ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ قَدَرُوا ، أَوْ إلَى غَيْرِهَا .
قال
ابن قدامة :
أَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ ؛ رِجَالا وَرُكْبَانًا ، إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَهُمْ ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ ، يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَيَتَقَدَّمُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ ، وَيَضْرِبُونَ وَيَطْعَنُونَ ، وَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ ، وَلا يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا . وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ . اهـ .
وقَالَ
أَبُو الْقَاسِمِ الخرقي :
وَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ وَهُوَ مَطْلُوبٌ ، ابْتَدَأَ الصَّلاةَ إلَى الْقِبْلَةِ ، وَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا رَاجِلا وَرَاكِبًا ، يُومِئُ إيمَاءً عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ .
قال
ابن قدامة :
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ، بِحَيْثُ لا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلاةِ إلَى الْقِبْلَةِ ، أَوْ احْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ ، أَوْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلاةِ ؛ إمَّا لِهَرَبٍ مُبَاحٍ مِنْ عَدُوٍّ ، أَوْ سَيْلٍ ، أَوْ سَبُعٍ ، أَوْ حَرِيقٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، مِمَّا لا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إلاّ بِالْهَرَبِ ، أَوْ الْمُسَايَفَةِ ، أَوْ الْتِحَامِ الْحَرْبِ ، وَالْحَاجَةِ إلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْمُطَارَدَةِ ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ، رَاجِلا وَرَاكِبًا إلَى الْقِبْلَةِ - إنْ أَمْكَنَ - ، أَوْ إلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْ .وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، أَوْمَأَ بِهِمَا ، وَيَنْحَنِي إلَى السُّجُودِ أَكْثَرَ مِنْ الرُّكُوعِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الإِيمَاءِ ، سَقَطَ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ أَوْ غَيْرِهِمَا ، سَقَطَ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ ، فَعَلَ ذَلِكَ .وَلا يُؤَخِّرُ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) . اهـ .
وهذا يَرِد عليه : قول
أنس رضي الله عنه :
حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا . وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا . علّقه البخاري .
قال الإمام البخاري :
بَاب الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ . وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ : إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ صَلَّوْا إِيمَاءً ، كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ ، أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لا يُجْزِئُهُمْ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا ، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ .
وقال
القرطبي عن قول أنس رضي الله عنه :
ذَكَرَه البخاري ، وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة ؛ وهو اختيار البخاري فيما يظهر . اهـ .
وقال أيضا :
اختلفوا في صلاة الخوف عند الْتِحَام الحرب وشِدة القتال وخَيف خُروج الوقت ، فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء : يُصَلِّي كيفما أمكن ، لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر مِن ذلك فيُصَلِّي راكبا أوْ قائما يُومئ إيماء . قال في الموطأ : مُستقبل القبلة وغير مُستقبلها . اهـ .
وقال
القرطبي :
واخْتَلَفُوا في صلاة الطالب والمطلوب ؛ فقال مالك وجماعة مِن أصحابه : هما سواء ، كُلّ واحد منهما يُصَلِّي على دابته . وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم : لا يُصَلِّي الطالِب إلاَّ بالأرض ، وهو الصحيح ؛ لأن الطَّلَب تَطَوّع ، والصلاة المكتوبة فَرْضها أن تُصَلى بالأرض حيثما أمكن ذلك ، ولا يُصَلّيها راكب إلاَّ خائف شديد خوفه ، وليس كذلك الطالب .
وهذا يَرِد عليه : ما قاله الترمذي ، حيث قال :
رُوي عن أنس بن مالك أنه صلى على دابته في ماء وطين . والعمل على هذا عند أهل العلم ، وبه يقول أحمد وإسحاق ، وفعله جَابر بن زيد ، وأمَر به طاوس وعمارة بن غزية .
وما نَقَله
ابن عبد البر عن مالك والشافعي أنهما قالا :
يُصلِّي المسافر الخائف على قدر طاقته ، مُسْتَقْبِل القبلة وغيره مُستقبلها . وبذلك قال أهل الظاهر لعموم قوله : (فإن خفتم)وقال
ابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه :
لا يُصلّي الخائف إلاّ إلى القبلة .
وما قاله
ابن قدامة في " المغني " :
ومَن كان في ماء وطين أوْمأ إيماء . وجملة ذلك أنه إذا كان في الطين والمطر ولم يمكنه السجود على الأرض إلاَّ بالتلوث بالطين والبلل بالماء ، فَلَه الصلاة على دابته يومئ بالركوع والسجود ، وإن كان راجلا أومأ بالسجود أيضا ، ولم يلزمه السجود على الأرض .
وقال
النووي :
وأما مراعاة القبلة للخائف في الصلاة ، فساقطة عنه عند أهل المدينة والشافعي إذا اشتد خوفه كما يسقط عنه النُّزول إلى الأرض .
وقال
ابن تيمية :
ويجوز للمريض إذا شق عليه القيام أن يُصَلِّي قاعدا ، فإن لم يستطع صَلَّى على جَنبه ، وكذلك إذا كان رجل لا يمكنه النُّزُول إلى الأرض صَلَّى على راحلته ، والخائف مِن عَدُوِّه إذا نَزَل ، يُصَلِّي على راحلته .
وقال
ابن مفلِح :
وتجوز صلاة الفرض على الراحلة - واقفة وسائرة ، وعليه الاستقبال وما يَقْدر عليه - خشية التأذي بالوَحْل .
وقال :
فإن قَدر على النُّزُول مِن غير مَضَرة لَزِمه ذلك القيام والركوع كغير حالة المطر ، ويُومئ بالسجود لِمَا فيه مِن الضَّرر .
وقال
ابن رجب :
قال أبو داود : سألت أبا عبد الله [يعني : الإمام أحمد] عن الصلاة صبيحة المغار ، فيؤخرون الصلاة حتى تطلع الشمس ، أو يصلون على دوابهم ؟ قال : كلٌّ أرجوا ...
وجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز تأخير الصلاة في حال القتال ، وتُصلّى على حسب حاله ، فإنه لا يأمن هجوم الموت في تلك الحال .
وقال
ابن الملقِّن :
وانفرد أبو حنيفة وأبو ليلى فقالا : لا يُصلِّي الخائف إلاَّ إلى القبلة . وعامة العلماء على خلافه .
وقال أيضا :
من أنواع صلاة الخوف صلاة الْمُسَايَفَة ، وهو إذا الْتَحَم القِتال أو اشتد الخوف ؛ فيُصَلّي كيف أمكن : راكبًا ، وماشيًا ، ويُعْذَر في ترك القبلة والأعمال الكثيرة للحاجة . وهو قول ابن عمر ، وبه أخذ مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء . ويَشهد لَه قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) .
قال بعض العلماء : بحسب ما يتمكن منه . اهـ .
وصح من حديث
جابر بن عبدالله ، كما في صحيح مسلم: 840 ، قال:
" شَهِدْتُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ صَلَاةَ الخَوْفِ،
فصَفَّنَا صَفَّيْنِ، صَفٌّ خَلْفَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَالْعَدُوُّ بيْنَنَا وبيْنَ القِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ، وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ، وَالصَّفُّ الذي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الذي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بالسُّجُودِ، وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الذي يَلِيهِ الذي كانَ مُؤَخَّرًا في الرَّكْعَةِ الأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نُحُورِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ السُّجُودَ وَالصَّفُّ الذي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا. قالَ جَابِرٌ:
كما يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ هَؤُلَاءِ بأُمَرَائِهِمْ.
جَابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما : جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري
صحابي
أنصاري من
بني غنم بن كعب بن سلمة أحد بطون قبيلة الخزرج، ولأبيه ع
بد الله بن عمرو بن حرام الذي قُتل في
غزوة أحد أيضًا صُحبة، وأمه
نسيبة ، وقيل
أنيسة بنت عقبة بن عدي الأنصارية.
اختُلف في كنيته فقيل
أبو عبد الله، وقيل
أبو عبد الرحمن، وقيل
أبو محمد.
أسلم جابر صغيرًا حين شهد
بيعة العقبة الثانية مع أبيه.
ولما هاجر النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلى يثرب، كان جابر من أنصار النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، الذين التفّوا حوله، إلا أنه لم يشهد غزوة بدر ولا غزوة أحد، حيث منعه أبوه من المشاركة فيهما لأجل أن
يرعى أخواته التسع، ولكن بعدما قُتل أبوه في أُحد، لم يتخلّف جابر عن غزوة من غزوات النبي محمد،عليه الصلاة والسلام، كما شهد بيعة الرضوان.
وقد مرض جابر ذات مرة في زمن النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، فعاده النبي، واشتكى له أنه إن مات فسيورث كلالة، فنزلت آية الكلالة:
"
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ". لتوضح للمسلمين كيفية التوريث في تلك الحالة.
وبعد وفاة النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، شارك جابر في الفتح الإسلامي للشام، وكان في جيش خالد بن الوليد الذي حاصر دمشق، كما زعم الكلبي أنه شهد وقعة صفين مع علي بن أبي طالب. ثم تفرّغ جابر للجلوس في المسجد النبوي يعلّم الناس، وكان من المكثرين في رواية الحديث النبوي، فكانت له حلقة في المسجد يلتفّ فيها الناس ليسمعوا من الحديث النبوي وليستفتونه، حيث كان مفتي المدينة في زمانه. كما كان لا يتورع أن يرتحل ليتأكد من صحة الأحاديث، فقد رُوي أنه رحل في آخر عمره إلى مكة ليتأكد من صحة أحاديث سمعها، كما رُوى أنه رحل إلى مصر ليسمع حديث القصاص من
عبد الله بن أنيس.
اضطربت الروايات حول زمان وفاة
جابر بن عبد الله، فقيل أنه مات سنة
73 هـ، وقيل سنة
74 هـ، وقيل سنة
78 هـ، وقيل سنة
77 هـ، وعمره 94 سنة، وقد عمي آخر عمره، وصلى عليه أبان بن عثمان بن عفان والي المدينة المنورة وقتها بقباء، وقيل أنه أوصى ألا يصلّي عليه الحجاج بن يوسف الثقفي. إلا أن الأرجح أن وفاته كانت سنة
78 هـ،
لما ذكره الذهبي عن أنه عاش بعد عبد الله بن عمر بن الخطاب بأعوام. وكان آخر أصحاب النبي محمد موتًا بالمدينة، وقيل آخرهم
سهل بن سعد.
كما أنه آخر من مات بالمدينة المنورة ممن شهد بيعة العقبة. وقد أخذ الحسن المثنى بعمودي سريره في جنازته.
يحكي جابر بن عبد الله ،إحْدَى كَيْفِيَّاتِ صلاةِ الخَوْفِ في الحَرْبِ، وذلك أنَّه شَهِدَ مع رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةَ الخَوْفِ حيث صَفَّهُمْ خَلفَهُ صَفَّيْنِ، وَكان العَدُوُّ بينهم وبين القِبْلَةِ، فَكَبَّر النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أي: تَكْبِيرةَ الإحرامِ، وكبَّرَ المُسْلِمُونَ جمِيعًا أرادَ به الصَّفَّيْنِ؛ ثُمَّ ركعَ، أي: بَعْدَ القِراءةِ؛ وَرَكَعُوا جمِيعًا، ثُمَّ رفعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ورفَعوا جمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذي يَلِيهِ وقامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ أي: الَّذِينَ تَأخَّرُوا للْحِرَاسَةِ لِمن أمَامَهم في سُجودِهِمْ؛ في نَحْرِ العَدُوِّ أي: في مُقابلتِه وحِذاءَه، ونَحْرُ كلِّ شيءٍ أوَّلُه؛ كَيْلا يَهْجُموا عليهم وهم ساجِدونَ، فَلمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ السَّجْدَتَيْنِ وقامَ معه الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ أي: نَزَلَ؛ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ ثُمَّ لمَّا انتهوا منْ سَجْدَتِهِمْ قاموا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ: ووقَفوا مَكان الصَّفِّ الأوَّلِ؛ أي: بعد أن اسْتَوَوْا مع الأوَّلِينَ في القِيامِ خَلفهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وتأخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ؛ ثُمَّ ركعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أي: بعدَ قِيامِهِ وَقِراءتِهِ؛ وركَعْنا جمِيعًا، ثُمَّ رفعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكوعِ، ورفَعْنا جمِيعًا، ثُمَّ نَزَلَ بِالسُّجودِ وَالصَّفُّ الَّذي يَليهِ والَّذي كان مُؤَخَّرًا في الرَّكْعةِ الأُولى؛ وقامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ وهو الَّذي كان مُقَدَّمًا في الرَّكْعةِ الأُولى في نَحْرِ العَدُوِّ فلمَّا انْتهى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ السُّجودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَليهِ، نزلَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بِالسُّجودِ فَسجَدوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أي: بعدَ انْتِهائِهِم مِنَ السُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ؛ وسلَّمنا جمِيعًا؛ قال جَابِرٌ: كما يصنعُ حَرَسُكُم أي: خَدَمُ السُّلطانِ المُرتَّبُونَ لحِفظهِ وحِراستهِ؛ هؤلاء بِأُمَرائِهم أي: بِرُؤسائِهِمْ.