زهرة كاتبة متميزة واميرة الاشراف
عدد المساهمات : 261 تاريخ التسجيل : 27/02/2010 العمر : 29 الموقع : www.yahoo.com
| موضوع: " ...ولا تقولوا ثلاثة ..." اصل القول والتعليق عليه! الخميس يناير 10, 2013 10:49 pm | |
| فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة. انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحنه أن يكون له ولد. له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا . المائدة : 73
الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه . أي إذا وضح كل ما بينه الله [ ص: 54 ] من وحدانيته ، وتنزيهه ، وصدق رسله ، يتفرع أن آمركم بالإيمان بالله ورسله . وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين ، أي النصارى ، لأنهم لما وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان ، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيدا للأمر بالإيمان برسله ، وهو المقصود ، وهذا هو الظاهر عندي . وأريد بالرسل جميعهم ، أي لا تكفروا بواحد من رسله . وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهم متوهمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السلام مبالغة في نفي الإلهية عنه .
وقوله تعالى : " ولا تقولوا ثلاثة " أي لا تنطقوا بهذه الكلمة ، ولعلها كانت شعارا للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين ، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة : الإبهام والخنصر والبنصر . والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد . لأن أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلا عن اعتقاد ، فالنهي هنا كناية بإرادة المعنى ولازمه . والمخاطب بقوله ( ولا تقولوا ) خصوص النصارى .
و ( ثلاثة ) خبر مبتدأ محذوف كان حذفه ليصلح لكل ما يصلح تقديره من مذاهبهم من التثليث ، فإن النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي ، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث مما يصح الإخبار عنه بلفظ ( ثلاثة ) من الأسماء الدالة على الإله ، وهي عدة أسماء . ففي الآية الأخرى " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ". وفي آية آخرى من هذه السورة ::" أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟"، أي إلهين مع الله ، كما سيأتي ، فالمجموع ثلاثة : كل واحد منهم إله ; ولكنهم يقولون : إن مجموع الثلاثة إله واحد أو اتحدت الثلاثة فصار إلها واحدا . قال في الكشاف : ( ثلاثة ) خبر مبتدأ محذوف . فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون : هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم ، فتقديره الله ثلاثة وإلا فتقديره الآلهة ثلاثة اهـ .
والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلهم ، ولكنهم مختلفون في كيفيته . ونشأ [ ص: 55 ] من اعتقاد قدماء الإلهيين من نصارى اليونان أن الله تعالى ( ثالوث ) ، أي أنه جوهر واحد ، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم ، واحدها أقنوم بضم الهمزة وسكون القاف . قال في القاموس أقنوم : هو كلمة رومية ، وفسره القاموس بالأصل ، وفسره التفتزاني في كتاب المقاصد بالصفة . ويظهر أنه معرب كلمة ( قنوم ) بقاف معقد عجمي وهو الاسم ، أي الكلمة . وعبروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة ( آبا - ابنا - روحا - قدسا ) وهذه الأقانيم يتفرع بعضها عن بعض : فالأقنوم الأول : أقنوم الذات أو الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات .
والأقنوم الثاني: أقنوم العلم ، وهو الابن ، وهو دون الأقنوم الأول ، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية .
والأقنوم الثالث : أقنوم الروح القدس ، وهو صفة الحياة ، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات .
وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية ، مثل القدم والبقاء ، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة ، ثم أرادوا أن يتأولوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله ، فسموا أقنوم الذات بالأب ، وأقنوم العلم بالابن ، وأقنوم الحياة بالروح القدس ، لأن الإنجيل أطلق اسم الأب على الله ، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله ، وأطلق الروح القدس على ما به كون المسيح في بطن مريم ، على أنهم أرادوا أن ينبهوا على أن أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلوا على عدم تأخر بعض الصفات عن بعض فعبروا بالأب والابن ، كما عبر الفلاسفة اليونان بالتولد . وسموا أقنوم العلم بالكلمة لأن من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح ، فأرادوا أن المسيح مظهر علم الله ، أي أنه يعلم ما علمه الله ويبلغه ، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكللا بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الرومية ، فلما اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أن الأرباب ثلاثة ، وهذا أصل النصرانية ، وقاربوا عقيدة الشرك .
[ ص: 56 ] ثم جرهم الغلو في تقديس المسيح فتوهموا أن علم الله اتحد بالمسيح ، فقالوا : إن المسيح صار ناسوته لاهوتا ، باتحاد أقنوم العلم به ، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد ، ثم نشأت فيهم عقيدة الحلول ، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوعة ، ثم اعتقدوا اتحاد الله بالمسيح ، فقالوا : الله هو المسيح . هذا أصل التثليث عند النصارى ، وعنه تفرعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى :" ولا تقولوا ثلاثة " وقوله : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" وقوله : " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " وكانوا يقولون : في عيسى لاهوتية من جهة الأب وناسوتية أي إنسانية من جهة الأم .
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه ( آريوس ) قال بالتوحيد وأن عيسى عبد الله مخلوق ، وكان في زمن قسطنطينوس سلطان الروم باني القسطنطينية . فلما تدين قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة 327 تبع مقالة آريوس ، ثم رأى مخالفة معظم الرهبان له فأراد أن يوحد كلمتهم ، فجمع مجمعا من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التاريخ المسيحي ، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافا كثيرا ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحد ثلاثمائة وبضعة عشر عالما فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحية ونصره ، وهذه الطائفة تلقب ( الملكانية ) نسبة للملك .
واتفق قولهم على أن كلمة الله اتحدت بجسد عيسى ، وتقمصت في ناسوته ، أي إنسانيته ، ومازجته امتزاج الخمر بالماء ، فصارت الكلمة ذاتا في بطن مريم ، وصارت تلك الذات ابنا لله تعالى ، فالإله مجموع ثلاثة أشياء : الأول الأب ذو الوجود ، والثاني الابن ذو الكلمة ، أي العلم ، والثالث روح القدس .
[ ص: 57 ] ثم حدثت فيهم فرقة اليعقوبية وفرقة النسطورية في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان . فاليعقوبية ، ويسمون الآن ( أرثودكس ) ، ظهروا في أواسط القرن السادس المسيحي ، وهم أسبق من النسطورية ; قالوا : انقلبت الإلهية لحما ودما ، فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صنعه صنع الله تعالى مما يعجز عنه غير الله تعالى . وكان نصارى الحبشة يعاقبة ، وسنتعرض لذكرها عند قوله تعالى :" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " في سورة المائدة ، وعند قوله تعالى :" فاختلف الأحزاب من بينهم ".
والنسطورية قالت : اتحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشمس من كوة من بلور ، فالمسيح إنسان ، وهو كلمة الله ، فلذلك هو إنسان إله ، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانية وأخرى إلهية ، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النحلة لقب جاثليق . وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب . وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كل فريق نحلته بين قبائل العرب . وكان الأكاسرة حماة للنسطورية ، وقياصرة الروم حماة لليعقوبية . وقد شاعت النصرانية بنحلتيها في بكر ، وتغلب ، وربيعة ، ولخم ، وجذام ، وتنوخ ، وكلب ، ونجران ، واليمن ، والبحرين . وقد بسطت هذا ليعلم حسن الإيجاز في قوله تعالى ( ولا تقولوا ثلاثة ) وإتيانه على هذه المذاهب كلها . فلله هذا الإعجاز العلمي .
[ ص: 58 ] والقول في نصب ( خيرا ) من قوله ( انتهوا خيرا لكم ) كالقول في قوله تعالى ( فآمنوا خيرا لكم ) .
والقصر في قوله :" إنما الله إله واحد " قصر موصوف على صفة ، لأن ( إنما ) يليها المقصور ، وهو هنا قصر إضافي ، أي ليس الله بثلاثة .
وقوله سبحانه ( أن يكون له ولد ) إظهار لغلطهم في أفهامهم ، وفي إطلاقاتهم لفظ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنهما إما ضلالة وإما إيهامها ، فكلمة ( سبحانه ) تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد ، والدلالة على غلط مثبتيه ، فإن الإلهية تنافي الكون أبا واتخاذ ابن ، لاستحالة الفناء ، والاحتياج ، والانفصال ، والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى . والبنوة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأن النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع ، والناس يتطلبونها لذلك ، وللإعانة على لوازم الحياة ، وفيها انفصال المولود عن أبيه ، وفيها أن الابن مماثل لأبيه فأبوه مماثل له لا محالة .
و ( سبحان ) اسم مصدر سبح ، وليس مصدرا ، لأنه لم يسمع له فعل سالم . وجزم ابن جني بأنه علم على التسبيح ، فهو من أعلام الأجناس ، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة . وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا في سورة البقرة .
وقوله ( أن يكون له ولد ) متعلق بـ ( سبحان ) بحرف الجر ، وهو حرف ( عن ) محذوفا .
وجملة ( له ما في السماوات وما في الأرض ) تعليل لقوله سبحانه ( أن يكون له ولد ) لأن الذي له ما في السماوات وما في الأرض قد استغنى عن الولد ، ولأن من يزعم أنه ولد له هو مما في السماوات والأرض كالملائكة أو المسيح ، فالكل عبيده وليس الابن بعبد .
[ ص: 59 ] وقوله ( وكفى بالله وكيلا ) تذييل ، والوكيل الحافظ ، والمراد هنا حافظ ما في السماوات والأرض ، أي الموجودات كلها . وحذف مفعول ( كفى ) للعموم ، أي كفى كل أحد ، أي فتوكلوا عليه ، ولا تتوكلوا على من تزعمونه ابنا له . وتقدم الكلام على هذا التركيب عند قوله تعالى وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا في هذه السورة .
| |
|