مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) (نهاية الجزء الخامس)
وأخيرا تجيء تلك اللمسة العجيبة ، الموحية المؤثرة العميقة . .
أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع ، والأجر العظيم . .
لتشعر قلوب البشر أن الله في غنى عن عذاب العباد .
فما به - سبحانه - من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب .
وما به - سبحانه - من حاجة لاظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق .
وما به - سبحانه - من رغبة ذاتية في عذاب الناس .
كما تحفل أساطير الوثنية كلها بمثل هذه التصورات . .
وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله . .
مع تحبيبهم في الإيمان والشكر لله .
وهو الذي يشكر صالح العمل ويعلم خبايا النفوس :
(ما يفعل الله بعذابكم - إن شكرتم وآمنتم - وكان الله شاكرا عليما). .
نعم ! ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ؟
إن عذابه لجزاء على الجحود والكفران ، وتهديد لعله يقود إلى الشكر والإيمان . .
إنها ليست شهوة التعذيب ، ولارغبة التنكيل ، ولا التذاذ الآلام ، ولا إظهار البطش والسلطان . .
تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا . .
فمتى اتقيتم بالشكر والإيمان ، فهنالك الغفران والرضوان .
وهناك شكر الله - سبحانه - لعبده .
وعلمه - سبحانه - بعبده .
وشكر الله - سبحانه - للعبد ، يلمس القلب لمسة رفيقة عميقة . .
إنه معلوم أن الشكر من الله - سبحانه - معناه الرضى ،ومعناه ما يلازم الرضى من الثواب . .
ولكن التعبير بأن الله - سبحانه - شاكر . .
تعبير عميق الإيحاء !
وإذا كان الخالق المنشىء المنعم المتفضل ،الغني عن العالمين . .
يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وامتنانهم . .
وهو غني عنهم وعن إيمانهم وعن شكرهم وامتنانهم . .
إذا كان الخالق المنشى ء ، المنعم المتفضل ، الغني عن العالمين يشكر. .
فماذا ينبغي للعباد المخلوقين المحدثين ، المغمورين بنعمة الله . .
تجاه الخالق الرازق المنعم المتفضل الكريم ؟!
ألا إنها اللمسة الرفيقة العميقة
التي ينتفض لها القلب ويخجل ويستجيب .
ألا إنها الإشارة المنيرة إلى معالم الطريق . .
الطريق إلى الله الواهب المنعم ,الشاكرالعليم . .
وبعد . . فهذا جزء واحد ، من ثلاثين جزءا ، من هذا القرآن . .
يضم جناحية على مثل هذا الحشد العجيب من عمليات البناء والترميم ، والتنظيف والتقويم .
وينشى ء في عالم النفس ،وفي واقع المجتمع ، وفي نظام الحياة ، ذلك البناء الضخم المنسق العريض .
ويعلن مولد الإنسان الجديد ، الذي لا تعرف له البشرية من قبل ولا من بعد مثيلا ولا شبيها ، في مثاليته وواقعيته .
وفي نظافته وتطهره ، مع مزاولة نشاطه الإنساني في شتى الميادين . .
هذا الإنسان الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية ، ودرج به في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة .
في يسر . وفي رفق وفي لين . .
انتهى من الظلال.
رحم الله صاحب الظلال رحمة واسعة.
(إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء) صاحب الظلال.
....................................... التحليل الموضوعي للايات .............
قوله تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما
استفهام بمعنى التقرير للمنافقين . التقدير : أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم ؛ فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن ، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه ، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه .
وقال مكحول : أربع من كن فيه كن له ، وثلاث من كن فيه كن عليه ؛
فالأربع اللاتي له :
فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار ، قال الله تعالى : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ".
وقال الله تعالى : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"
وقال تعالى : " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم" .
وأما الثلاث اللاتي عليه :
فالمكر والبغي والنكث ؛
قال الله تعالى :" فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ".
وقال تعالى : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله "
وقال تعالى : " إنما بغيكم على أنفسكم . وكان الله شاكرا عليما"
أي يشكر عباده على طاعته . [ ص: 365 ]
ومعنى " يشكرهم " يثيبهم ؛ فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل ، وذلك شكر منه على عبادته .والشكر في اللغة الظهور ، يقال : دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى . والعرب تقول في المثل : " أشكر من بروقة " لأنها يقال : تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر . والله أعلم .