قال ربنا تبارك وتعالى: "
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".
سورة التغابن:14 ما أسباب النزول للايات الكريمة؟
فيمن نزلت الآيات الكريمة؟
ما الفرق بين العفو والصفح والمغفرة؟
ما الغرض المنشود من ذكر- الحق سبحانه - للعفو والصفح والمغفرة في آية واحدة؟
اولا:
أسباب النزول:
حدثنا أَبو كُرَيْب، قال: ثنا يحيى بن آدم وعبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن سِماك ، عن عكرمة، عن
ابن عباس، قال: سأله رجل عن هذه الآية (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) قال:
هؤلاء رجال أسلموا، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؛
فلما أتَوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم
فرأوا الناس قد فقهوا في الدين، هموا أن يعاقبوهم، فأنـزل الله جلّ ثناؤه (
إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ ) .. الآية.
وعن
ابن عباس، قوله: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ )
كان الرجل إذا أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة تمنعه زوجته وولده، ولم يألُوا يثبطوه عن ذلك، فقال الله: إنهم عدوّ لكم فاحذروهم واسمعوا وأطيعوا، وامضُوا لشأنكم، فكان الرجل بعد ذلك إذا مُنع وثبط مرّ بأهله وأقسم، والقسم يمين ليفعلنّ وليعاقبنّ أهله في ذلك، فقال الله جلّ ثناؤه (
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن
عطاء بن يسار قال:
نـزلت سورة التغابن كلها بمكة، إلا هؤلاء الآيات ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) نـزلت في عوف بن مالك الأشجعيّ، كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورقَّقوه، فقالوا: إلى من تَدعنا ؟ فيرقّ ويقيم، فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة.
ثانيا:
تحرير القول في العفو و الصفح والمغفرة: العفو :
عدم المقابلة بالمثل .
و
الصفح :
الإعراض عن اللوم والتوبيخ .
و
المغفرة :
ستر الذنوب .
بهذا فسّره البيضاوي والنسفي . وفي (
تفسير البيضاوي ) (5/ 219):
"
وإن تعفوا عن ذنوبهم بترك المعاقبة. وتصفحوا بالإعراض وترك التثريب عليها. وتغفروا بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها. فإن الله غفور رحيم " .
ففي (
تفسير النسفي ) (3/ 493):
"
وَإِن تعفوا عنهما إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها وَتَصْفَحُواْ تعرضوا عن التوبيخ وَتَغْفِرُواْ تستروا ذنوبهم فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم " .
وقيل إنّ :
العفو : يكون
عن الظالم .
و
الصفح :
عن الجاهل .
و
المغفرة :
عن المسيء .
وبهذا فسّره الماوردي .ففي (
تفسير الماوردي ) ( 6/ 25):
"
يريد بالعفو عن الظالم ، وبالصفح عن الجاهل ، وبالغفران للمسيء" .
وقيل أن:
العفو:
ترك العقاب.
و
الصفح:
ترك العتاب.
و
الغفران:
الستر على الأحباب.
قال
ابن عاشور في
التحرير ( 11 / 285) :
" و
العفو:
ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها . ولو مع توبيخ.
و
الصفح:
الإعراض عن المذنب ، أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ.
و
الغفر:
ستر الذنب وعدم إشاعته.
والجمع بينها إيماء إلى تراتب آثار هذه العداوة وما تقتضيه آثارها من هذه المعاملات الثلاث . وحذف متعلق الأفعال الثلاثة لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم ، ويجوز أن يكون حذف المتعلق لإرادة عموم الترغيب في العفو.
وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقا بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة وفي أدلة الشريعة تقييدات لها" .
........................
وقيل ايضا :
العَفُو:
هو إسقاط العقوبة بدون إسقاط الذنب. فمن عفا عن أحد فقد امتنع عن العقوبة مهما كانت إلا أن المؤاخذة عن الذنب لا تسقط.
أصل العَفو هو
المَسح والذهاب بسبب القِدَم، فسميّ كذلك لأن العقوبة تمسح عن المذنب.
مثال ذلك:
يقال:
عفا الملك عن المسجونين يوم الاستقلال. هذا يعنى أن العقوبة المفروضة عليهم قد أسقطت إلا أن المؤاخذة بالذنب لم تسقط فلا يزال مكتوبا و موثقا ومسجلا بأنهم من أصحاب السوابق وسيعاملون على هذا الأساس حتى بعد العفو.
قال تعالى:"
فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"
(
أي مجاوزة الإساءة مع بقاء أثرها)
وقال تعالى:"
يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم"
أن العفو هو مجاوزة الإساءة مع بقاء شيء في النفس .
و
المغفرة هي
نسيان الإساءة ، وكذا الصفح وقد ذكر الله تعالى هذه الصفات الثلاث(العفو،المغفرة والصفح ) في هذا الموضع دليلاً على حرص الإسلام على قوة الروابط الأسرية والزوجية .
المُسَامَحَة:
هي
إسقاط المؤاخذة واللوم بغض النظر عن إسقاط العقوبة عن المذنب، فالمسامح يترك المؤاخذة واللوم ويتصرف كأن شيئا لم يكن إلا أن المذنب قد يكون عوقب وانتهى أمره.
أصل المسامحة هو
السماح، أي الجود، فالمُسَامِح قد جادَ على المذنب بأن ترك المؤاخذة.
مثال ذلك:
يقال:
سامح الأب إبنه على تصرفه السيء مع أخيه...وهذا يعني أن الأب لن يعود يذكر الأمر ولن يلومه على ما فعل، إلا إن ذلك لا يعنى أن الأب لم يعاقب إبنه على الفعل.
الصَفْح:
هو
التجاوز عن المذنب تماما بترك مؤاخذته وعقابه.
أصل الصفح هو
إبداء صفحة جميلة من الوجه ومنه قلب الصفحة أيضا. فالصفح أعلى من العفو والمسامحة.
مثال ذلك:يقال:
صفحت الزوجة عن زوجها بعد أن عاملها بسوء وأسمعها ما لا يسرها. يعني أن الزوجة لن تؤاخذ زوجها بما قال ولم ولن تعاقبه او تلومه ، بل ستفتح صفحة جديدة معه، كأن شيئا لم يكن.
الغُفْرَان أو المَغْفِرَة:
هو
إسقاط العقوبة والمؤاخذة ولكنه يزيد عن
الصفح بأن
الغفران يوجب الثواب للمغفور له وثوابه بأن يستر أو يخفى ذنبه.
أصل الغفران هو
الإخفاء والستر.
مثال ذلك:
يقال:
غفر الله ذنوب المؤمنين. أي أن الله لم يكتفي بأن يسقط العقاب واللوم بل أنه أثاب المذنبين بعد ذلك بأن سترهم أو قلب سيئاتهم حسنات أو ما شاء فعل.
وقد تكون
المغفرة هي
مجاوزة الخطأ مع بقاء أثره و
العفو هو
محو الخطأ وكأنه لم يكن (أي عكس ماذُكر) والدليل قول الله تعالى يو القيامة في العرض (عرض المؤمنين) يذكر لهم أعمالهم -دون مناقشتها- ثم يقول لهم "
غفرتها لكم "(أي
أن المجاوزة حصلت ولكن مع عدم تجاهلها)
صح عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن رضي الله عنهما قال:
" بينما أنا أَمْشِي مع ابنِ عمرَ رضي الله عنهما آَخِذٌ بيدِه ؛ إذ عَرَضَ رجلٌ فقال : كيف سَمِعْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّجْوى ؟ فقال : سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : "
إن اللهَ يُدْنِي المؤمنَ ، فيَضَعُ عليه كنفَه ويَسْتُرُه ، فيقولُ : أتَعْرِفُ ذنبَ كذا : أَتَعْرِفُ ذنبَ كذا ؟ فيقول : نعم. أَيْ ربِّ ، حتى إذا قرَرَّه بذنوبِه ، ورأى في نفسِه أنه هلَكَ ، قال : ستَرْتُها عليك في الدنيا ، وأنا أغفِرُها لك اليوم ، فيُعْطَى كتابُ حسناتِه . وأما الكافرُ والمنافقُ ، فيقولُ الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ".
الراوي : عبدالله بن عمر | المحدث : البخاري في صحيحه: 2441 ومن حديث انس بن مالك -رضي الله عنه - عن النبي -عليه الصلاة والسلام -عن ربه انه قال :"
قالَ اللَّهُ تعالى : يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعَوتَني ورجَوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أُبالي ، يا ابنَ آدمَ لو بلغَت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ ولا أبالي ، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقِرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً".
الراوي : أنس بن مالك | المحدث : الألباني في السلسلة الصحيحة : 127 | خلاصة حكم المحدث : حسن ومن حديث ابي ذر الغفاري رضي الله عنه ع النبي عليه الصلاة والسلام انه قال :"
إنِّي لأعرِفُ آخرَ أَهْلِ النَّارِ خروجًا منَ النَّارِ وآخرَ أَهْلِ الجنَّةِ دخولًا الجنَّةَ يُؤتَى برجُلٍ فيقولُ : سَلوا عن صِغارِ ذنوبِهِ وأَخبِئوا كِبارَها فيقالُ لَهُ : عمِلتَ كذا وَكَذا يومَ كذا وَكَذا عملتَ كذا وَكَذا في يومِ كذا وَكَذا فيقالُ لَهُ فإنَّ لَكَ مَكانَ كلِّ سيِّئةٍ حَسنةً قالَ فيقولُ يا ربِّ لقد عَمِلْتُ أشياءَ لا أراها هَهُنا"
الراوي : أبو ذر الغفاري | المحدث : الترمذي في سننه: 2596 | خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح ....................
قال الإمام الغزالي :
"
الغفور :
بمعنى
الغفار ولكنه بشيء ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنها الغفار فإن
الغفار مبالغة في المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكررة مرة بعد أخرى فالفعال ينبئ عن كثرة الفعل والفعول ينبئ عن جودته وكماله وشموله فهو
غفور بمعنى أنه تام المغفرة والغفران كاملها حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة.
"المقصد الأسنى - (1 / 105) وقال:"
العفو: صفة من صفات الله تعالى، وهو الذي
يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي ، وهو قريب من الغفور ، ولكنه أبلغ منه، فإن
الغفران ينبئ عن الستر و
العفو ينبئ عن المحْوِ ، والمحو أبلغ من الستر .
وحظ العبد من ذلك لا يخفى ، وهو أن يعفو عن كل من ظلمه بل يحسن إليه ، كما يُرى اللهُ تعالى محسنا في الدنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم بالعقوبة ، بل ربما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم ، وإذا تاب عليهم محا سيئاتهم ، إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وهذا غاية المحو للجناية ."
( المقصد الأسنى/140 ) يتمثل الفرق بين (العفو والغفران) في أمور عديدة أهمها:
• أن
الغفران يقتضي
إسقاط العقاب ونيل الثواب، ولا يستحقه، إلا المؤمن ولا يكون إلا في حق البارئ تعالى.
أما
العفو فإنه يقتضي
إسقاط اللوم والذم ولا يقتضي نيل الثواب ، ويستعمل في العبد أيضا .
العفو قد يكون قبل العقوبة أو بعدها أما
الغفران ؛ فإنه
لا يكون معه عقوبة البتة ولا يوصف بالعفو إلا القادر عليه .
في
العفو إسقاط للعقاب وفي
المغفرة ستر للذنب وصون من عذاب الخزي والفضيحة .
( الكليات للكفوي/ 632-666 ) وأما الفرق بين (الصفح والعفو): الصفح والعفو متقاربان في المعنى ، فيقال :
صفحت عنه :
أعرضت عن ذنبه وعن تثريبه.
إلا أن (
الصفح)
أبلغ من (
العفو )
فقد يعفو الإنسان ولا يصفح، و
صفحت عنه أوليته صفحة جميلة.
( بصائر ذوي التمييز/3 :421). وقال
الكفوي :" (
الصفح)
أبلغ من (
العفو) ؛ لأن
الصفح تجاوز عن الذنب بالكلية واعتباره كأن لم يكن .
أما
العفو فإنه
يقتضي إسقاط اللوم والذم فقط ، ولا يقتضي حصول الثواب ."
( الكليات للكفوي/666)............................
عودا على ذي بدء- استعراض للايات ومقاصدها ومعانيها والتفرق بينها- :
الترتيب الذي ذكره الله في سورة التغابن فيه دقة متناهية تتناسب مع السياق والمعنى المراد:
حيث
بدأ الله بالعفو، وهو:
ترك المعاقبة على الذنب؛
ثم
الصفح ؛ أي:
الإعراض عن المذنب وترك تثريبه ، أي: ترك تعنيفه .
ثم
المغفرة وهي :
ستر الذنب وعدم إشاعته.
ل
أن النفس قد تعفو؛ أي: تترك المعاقبة لكن مع بقاء شيء في النفس ؛ فقال الله : و
تصفحوا ؛ أي:
الإعراض عن المذنب وترك تثريبه، وقد تعفو النفس وتصفح
لكن ربما ترغب في إشاعة هذا الذنب فقال الله : (
وتغفروا) ؛ أي:
استروا هذا الذنب.
وفي هذا كله دليل على
كيفية التعامل داخل الأسرة بين الزوجين، وبين الوالدين والأبناء.
قال تعالى " ......
وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "
النور 22 فالصفح:
مأخوذة من
إعطاء الرجل صفحة وجهه لغيره مما يدل على الإعراض وترك المجازاه.
واما
العفو:
فيقال عفت الريح الأثر اذا أزالت معالمه.
واما
الغفران:
فمأخوذ من
الستر كما قال الشاعر :
في ليلة غفر النجومَ ظلامُها ... اي سترها... ومنها المغفر وهو السلاح الذي يستر لابسه
وبهذا يظهر لنا أن
الصفح دال على
الإعراض عن الإساءة ،
بينما
العفو ترك المؤاخذة وعدم المجازاة ،
اما
الغفران فدال على
الستر وعدم إشاعة الإساءة .
وليس كل عفو ترك لعقوبة :
قال الحق سبحانه: "
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ ..."
البقرة 178 سمح له به.
وقال عز وجل:"
عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ..."
البقرة:187 بمعنى
رفع تكليف.
وقال سبحانه: ".....
وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ ..."
البقرة:219 بمعنى
الفائض.
وقال عز وجل: "....
فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً "
النساء: 43 عفوا فلم يعسر التكاليف.
وقال تقدست اسماؤه: "
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ "
المائدة: 101 لم
يقصها عليكم في القرآن.
فكل لفظة وكلمة - رغم تشاببها- لها دلالة حسب موقعها.
...................
المزيد من تحرير القول وبيان الخلاف والاختلاف، ومن ثم المعنى و المفصود والمقصود:
قال تعالى:
"
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم".ٌ
البقرة178 وقال سبحانه:
"
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ".
التغابن14 المفردة المتنازع فيها هي
العفو) . بين كونها :
(
مجاوزة الإساءة مع بقاء أثرها).
وكونها :
(
محو الخطأ وكأنه لم يكن).
فقبل التطرق للمفردة القرآنية نبحث عن نوعها أولا : فمفردة (
عفا) هي من المشترك القرآني أو الوجوه والنظائر . بمعنى أن معناها في القرآن الكريم يختلف حسب السياق .
فهي كما في
الوجوه والنظائر للبلخي (ت:150هـ) : " على ثلاثة أوجه " وذكرها بتفصيل نختصرها كالتالي :
الوجه الأول :
الفضل من المال .
والوجه الثاني :
الترك .
والوجه الثالث :
العفو بعينه .
وذلك حسب السياقات المختلفة .
نعود إلى النص الأول : يقول
البيضاوي (ت:685 هـ) في تفسيره : "
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء "، أي شيء من العفو، لأن عفا لازم. وفائدته الإِشعار بأن بعض
العفو كالعفو التام في إِسقاط القصاص.
وقيل
عفا بمعنى
ترك، وشيء مفعول به وهو ضعيف، إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه. وعفا يعدى بـ (
عن ) إلى الجاني وإلى الذنب، قال تعالى : "
عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ"
[التوبة: 43] وقال :"
عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف"
[المائدة: 95] فإذا عدي به إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام ، وعليه ما في الآية كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه."
فما معنى عفا ؟في
لسان العرب : "
العَفْوُ، وهو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقابِ عليه، وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس . " وهو ما تدل عليه الآية الأولى في المثال .
فالعفو فيها هو :
التجاوز عن القصاص وترك العقاب عليهالنفس بالنفس وطلب الدية . و : مجاوزة الإساءة مع بقاء أثرها .
وإذا انتقلنا للمثال الثاني ، الآية: 14 من سورة التغابن ، جاءت
ثلاث مفردات متتابعة ، مما يدل على اختلافها في المعنى . ففي هذه الآية
طريقة فعالة في التعامل مع الأزواج والأولاد حتى تمر الأمور معهم بسلام . وهذه الطريقة تتجلى في العفو والصفح والمغفرة .
فالعفو يعني :
التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه.
والصفح يعني :
ترك التثريب . و
التثريب هو : " ا
لتقريع والتقرير بالذنب. قال تعالى :"
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْم"
َ[يوسف:92] "
(المفردات) للراغب الأصفهاني . " وأَصل
الغَفْرِ ا
لتغطية والستر. غَفَرَ الله ذنوبه أَي سترها "
(لسان العرب) وبالتالي
تتلخص المعاملة مع الأزواج والأولاد في :
التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه ، وترك التثريب ، وستر الأخطاء عن الآخرين ، أي عدم فضح ما يقع داخل الأسرة أمام أفراد الأسرة نفسها أو أمام الناس خارج الأسرة . وبهذا نضمن أن نتجاوز الصعاب ونحل المشاكل داخل الأسرة بسلام .
خلاصة القول :
إن
العفو في هذا السياق هو
التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه ، حيث عُوض العقاب بطلب الدية تخفيفا ورحمة من الله .
قال
ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الكلام على قوله تعالى:"
لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين" ـ
قد ذكروا أن المعفو عنه هو الذي استمع أذاهم ولم يتكلم وهو( مخشي بن حمير) هو الذي تيب عليه، وأما الذين تكلموا بالأذى فلم يعف عن أحد منهم، يحقق هذا أن العفو المطلق إنما هو ترك المؤاخذة بالذنب وإن لم يتب صاحبه، كقوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ "، والكفر لا يعفى عنه، فعلم أن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية لا كافرة إما بسماع الكفر دون إنكاره والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله، أو بكلام هو ذنب وليس هو كفرا أو غير ذلك. انتهى